الجنوب السوري عقدة في الرِهان الكبير

حياة الحويك

كاتبة وباحثة، خبيرة في الإعلام السياسي

" في أسوأ الأحوال علينا أن نتوقّع انفجار سيارة مفخّخة أو قنلبة نووية في الطابق الأرضي لمركز التجارة الأميركي"

- بنيامين نتنياهو / 1995/ في كتابه " أمن وسلام – استئصال الإرهاب ، ص 151/ النسخة الفرنسية-

ليس الغريب أن تأتي هذه العبارة على لسان نتنياهو قبل ستة أعوام من الحادث الذي غيّر التاريخ يوم 11 سبتمبر. بل الأغرب أن تأتي في سياق كلامه عن إيران، كواحدة من بؤر ما يسمّيه إرهاب الدول. في هذا الكتاب المانيفستو، يُفاخر زعيم الليكود، بأنه كرّس عمله برعاية موشيه أرينز لإقناع الغرب بأن المسؤول عن الإرهاب هي الدول ، أما لذاتها وأما لأنها ترعى إرهاب المنظمات. يستعرض هذه الدول على التوالي : العراق ، ليبيا، سوريا وإيران. وفي هذا الفصل الأخير يستفيض في مسؤولية سوريا عن احتضان التنظيمات وعن مسؤولية إيران ومشروعها النووي. وخطرها على إسرائيل وعلى جيرانها في الشرق الأوسط.

هل تكفي هذه الاستراتيجية الصهيونية المُزمنة، ودور اللوبي في واشنطن لتفسير ما رعته الولايات المتحدة من تدمير لدول المنطقة ، بعد أن برهن احتلال العراق، بعد حرب لبنان، أن الحرب بالوكالة أقل كلفة وأن ما تؤدي إليه من تدمير ذاتي أكثر فاعلية؟ وكذلك لموقف دونالد ترامب الأخير من الاتفاق النووي الإيراني؟ أم أن هناك اعتبارات داخلية ودولية أخرى تلعب دورها في الصراع الدائر الآن ؟ وبالتالي ، وفي الراهن: هل صحيح أن عقدة الجنوب السوري تكمن في وجود مقاتلي حزب الله وخبراء إيران في المنطقة الحدودية؟ بل والسؤال الأكثر جرأة ومباشرة : هل فعلاً تخشى إسرائيل من أن يشنّ الإيرانيون والسوريون وقوات المقاومة ( من حزب الله إلى ما يُسمّى بالقوات الرديفة) هجوماً على إسرائيل عبر الجنوب السوري ؟ أم أن هناك أوراقاً تحت وفوق الطاولة تحتاج إلى ذرائع كما هو الأمر دائماً في نهاية النزاعات والحروب ؟

بدءاً باللوبي اليهودي الراعي لإسرائيل . لا شك أن له نفوذه القوي في واشنطن وكذلك في أوروبا وإلى حد ما، عبر العالم ، ولكن ثمة معطيات كثيرة برزت ونحن في عام 2018. فمشروع القضاء على الدول الراعية للإرهاب – وفق نتنياهو – قد سجّل نقاط نجاح باهِر ، من العراق، إلى ليبيا، إلى السودان، ولكنه اصطدم بفشلين تاريخيين : في جنوب لبنان وفي سوريا. ومع الإثنين وقفت إيران. وبالتالي لم يؤد الأمر إلى تأمين حدود إسرائيل وإلى سَوْقِ آخر بلدين من دول الطوق إلى حظيرة الاستسلام. رغم الحربين الأهليتين المدمّرتين في لبنان ثم في سوريا، وكل بحجمه. فسوريا التي أفشلت اتفاق 17 أيار هي سوريا التي أفشلت محاولة جرّها هي نفسها إلى مثيله.

وإذا كان التدمير قد طال فعلياً الدول العربية التي حدّدها نتنياهو، إضافة إلى توريط الأخرى في حرب اليمن ، حيث يشلّ القاتل والمقتول.(بعد تهميش ثلاثة رئيسية عبر معاهدات استسلام) فإن ذلك يحوّل الشرق الأوسط من توازن أربعة مراكز قوة جغرافية وتاريخية ( بلاد فارس وبلاد الترك وبلاد العرب والكيان العبري) إلى خلل يخرج بلاد العرب من المعادلة ويجعل التوازن المطلوب بين البؤر الثلاث الأخرى. وهنا يبرز التناقض الجوهري بين تركيا وإيران. فالأولى صديقة لإسرائيل (بصرف النظر عن الغبار الإعلامي والإسلاموي) ، ترتبط بها باتفاقيات تعاون استراتيجي في المجالين العسكري والمدني . أما الثانية فتتبنّى، حتى الآن، موقفاً معادياً للدولة العبرية، يرفض أي تعاون معها، ويدعم القوى العاملة ضدها. كذلك فإن الأولى عضو في حلف شمالي الأطلسي فيما تعتبر الثانية رأس هذا الحلف الشيطان الأكبر. من هنا تفهم الدعوات الواضحة التي تقول بأن المطلوب ليس تغيير النظام في طهران بل تغيير سياساته، أو" سلوكه" كما يقول بعض الغربيين. وبالتالي قيام شرق أوسط جديد تسالم القوى الرئيسة فيه أميركا وإسرائيل ، وتصبح فيه جيوب المقاومة المتبقية في سوريا الطبيعية (اسرائيل الكبرى) بلا داعم. خيار لا يبدو أن الإيرانيين في وارده ، خاصة بعد أن نجحت الدولة السورية في تجاوز عنق الزجاجة وفرض الحفاظ على موقعها كمركز لسوريا الطبيعية ولمحور اقليمي ودولي معيّن.

غير أن المفارقة الأخرى هي أن هذه الدول " الإرهابية" ، هي دول الطاقة من نفط ومن غاز، غاز انضمت اكتشافاته الهائلة إلى مخزوناته المعروفة في دول ليس بينها- لا في الشرق الاوسّط ولا في العالم - موال لأميركا إلا قطر ( والدولة العبرية التي ستنضم إلى النادي). وفي الوقت نفسه برزت اكتشافات غاز ولو محدودة في الولايات المتحدة نفسها.

أبسط قوانين الاقتصاد أن الإنتاج يحتاج إلى أسواق ، وبهذه البساطة تفسّر أغلب رهانات الصراعات الحالية فمن دون الأسواق يتحوّل الإنتاج إلى تضخّم وهباء. والأسواق الرئيسية التي يدور حولها الصراع هما أوروبا وآسيا ( خاصة الصين) .

بذا كانت أول عُقَد الأزمة السورية : هل يمرغاز قطر إلى أوروبا عبر سوريا إلى المتوسّط ، وإلى تركيا ؟ أم يحافظ الروسي على تحكّمه بأوروبا عبر حنفية الغاز؟ حنفية تضمّ إلى الغاز الروسي، غاز المتوسّط إذا ما تمكّنت موسكو وغاز بروم السيطرة عليه أو على حصّة وازِنة فيه؟

لكن الأميركي لن يشطب حصته، لا في المتوسّط وشواطئه ولا في إيران التي لم يعقد معها اتفاقاً حول النووي إلا طمعاً في الأمرين المذكورين: وقف عدائها لأسرائيل والإفادة المطلقة من مشاريع الطاقة وإعادة الإعمار بعد الحصار فيها.

إيران فكّرت بما فكّر فيه قبلها صدّام حسين وحتى القذافي: التوجّه إلى أوروبا كبديل عن أميركا. إيرباص بدلاً من بوينغ. وهذا ما لا يقبله تاجر كدونالد ترامب . وما لا تستطيعه أوروبا التي شكّلت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ساحة حرب أخرى بين أنصار الاستقلالية وأنصار التبعية لواشنطن ، وتمكّن هؤلاء ، مدعومين باللوبي اليهودي واللوبي المالي من السيطرة داخل دول أوروبا الغربية ، خاصة بعد سقوط العراق . كما جاء انهيار المعسكر الاشتراكي ليضمّ إلى المنظومة الأميركية شرقاً مبهوراً بالأميركي ومستعد للتعلّق بذيله كردّة فعل على الاشتراكية التي انهارت بفعل عوامل ذاتية – من دون شك – ولكن بفعل النخر الليبرالي واليهودي في كيانها.

بذا تفهّم أهمية معركة الجنوب السوري، كنقطةٍ فاصلةٍ في كل هذه المعادلات، وتصبح كل التفصيلات الأخرى من مثل مصير المقاتلين الإرهابيين، ومصير قاعدة التنف ومصير الوجود الإيراني والقوات المقاومة، تفاصيل في الرهان الكبير والتسويات الكبرى.

Facebook Comments

Comments are closed.