ذكريات مُمزقة من دفاتر الذاكرة كثيرة هي القصص التي سمعناها من أشخاصٍ عايشوا تلك الجريمة، وحكايات تناهتْ إلى مسامعنا عن أصوات أرواح تجوب المكان بصورٍ شتى، فهناك من سمع أصوات أطفالٍ وضحكاتهم وهم يلعبون وآخر يؤكد إن همساتِ نسوة وهنّ يتبادلنّ أحاديث المساء قبل النوم، وأحاديث أخرى عن أرواحٍ كانت تُلقي التحية على من يمرّ بجانب ملجأ العامرية، ذلك المكان الذي حطّ فيه ملك الموت ليأخذ معه القوافل من أرواح المئات من العراقيين.
في همسات ذلك الليل الهادئ والبارد المظلم حيث إعتاد أهالي المنطقة على قضاء لياليهم الطويلة في ذلك المكان المُحصن أو هكذا كان يُظن للإحتماء به من الغارات الجوية، كان هذا المكان ملاذاً آمناً للكثير من العوائل التي كانت تذهبُ اليه بعد العصر لتوفر مقومات الحياة في هذا الملجأ من مولدات كهرباء وماء وتجمع آمن، حيث كانت بيوتهم تخلو من كل تلك الأساسيات التي قصفها الأعداء. حيث كان الملجأ عبارة عن كانتونات أفقية وعامودية مقسمة بأقسام للرجال وأخرى للنساء، وهكذا كانت العوائل تقضي لياليها في هذا الملجأ لتعود الى منازلها في الصباح الباكر من اليوم التالي. ولم تكنْ ساعات ليلة (13-14) شباط من عام 1991 إعتيادية بالنسبة لساكني ذلك الملجأ حيث استهدفه الطيران الأمريكي بعد منتصف الليل بصاروخين أحدث الصاروخ الأول ثقباً في جدار الملجأ المُحصن فيما إنفجر الصاروخ الثاني داخل الملجأ مُحدثاً إنصهاراً لكل شيء حتى تحولتْ تلك الأجساد الطرية إلى كُتلٍ سوداء مُتفحمة إلتصق بعضها بجدران الملجأ من شدة الحرارة والإنصهار.و في صباح اليوم التالي كان الجميع يركض مجنوناً بلا وعي أو إدراك في شوارع المنطقة القريبة من المكان يبحثون عن عوائلهم التي تأخر قدومها إلى المنزل، فذلك الأب الذي كان يسأل عن زوجته وأطفاله وذلك الذي تأخر عنه والديه وإخوته وتلك التي كانت تبحث عن بناتها الغائبات عن حضنها تلك الليلة، أما في ذلك المكان المسمى ملجأ العامرية فكان المشهد عظيماً لا يختلف عن يوم الحشر فالكل كان يبكي، ينتحب، يصرخ، والبعض فقد ماتبقى من قواه، وكانت أيادي الجميع تبحث عن مكان في السياج الخارجي للملجأ لترى عسى أن يظهر أحد الناجين من بوابة الملجأ.
وبعد سويعات حضرتْ الى المكان سيارات الإطفاء على أمل أن تساعد في التخفيف من وهج الإنصهار، لكن بخطأ غير مقصود وربما بغباءٍ منه أمر المسؤول عن الإطفاء برش مداخل الملجأ بخراطيم المياه حيث تسبب هذا الفعل بإنهاء حياة بعض من كان فيه رمق من الحياة بسبب غرق المكان، وهكذا تحول الموقع إلى مقبرة جماعية. وفي عصر ذلك اليوم الكئيب كانت شوارع المنطقة وأحيائها عبارة عن مجالس عزاء في كل بيتٍ أبوابه مفتوحة اختفى فيه المُعزين ولم يبق في سرادق العزاء سوى ذلك الذي فقد زوجته وأطفاله وتلك التي فقدت بناتها، لكن ماكان يُحزن وحقيقة أبكى الجميع هو ذلك الشاب الذي فقد والديه وإخوته جميعاً وجلس وحيداً في البيت يسأل نفسه كيف سيعتاد الوحدة في هذا الزمن.
وبرر الأمريكان تلك الجريمة بتبريرٍ أقبح من الذنب عن معلومات إستخبارية وصلتْ إليهم لزيارة قام بها الرئيس صدام حسين وولده قصي الى الملجأ وتفقده العوائل الموجودة هناك، لكن هل كان ذلك مبرراً لقتل كل هؤلاء الأبرياء وإزهاق أرواحهم. ولم تبق من ذكريات ذلك الملجأ سوى حفرة أحدثها الصاروخ في السقف وآثار حديد التسليح وحيطان سوداء لونتها آثار جثث مُحترقة ومُتفحمة وشموع توقد وذكريات سوداء أثقلها تراب السنين. فعندما يتذكر البعض أحداث هذه الجريمة لايفارقه اليقين بان دم هذا الشعب رخيص جداً ربما أرخص من شربة ماء. أكثر ما يستفز المرء هو ذلك الصمتْ الحكومي وعدم مطالبته بحقوق هؤلاء الضحايا من أعداء الأمس وأصدقاء اليوم، ربما الخوف او الخنوع أو ربما لإشياء أخرى نجهلها. لكن المؤكد أن جريمة ملجأ العامرية ستبقى وصمة عارٍ في جبين من يتباهى بالديمقراطية.