الصدمات والمتاعب النفسية التي نواجهها خلال مشوار حياتنا، قد لا تنتهي إلا بانتهائها. يقال إن الصدمة النفسية الأولى، التي نتعرّض لها منذ الولادة، هي لحظة الفطام، وبعدها تتوالى الصدمات التي تغيّر حالاتنا وتكوّن شخصياتنا وتصنع فرادتها. ستواجه كثيراً خلال مشوارك، ستسأل عن الله والوجود والإنسان، عن عائلتك الكبيرة وعائلتك الصغيرة، ثم عن المجتمع الكبير الموحش خارج أسوار البيت.
كيف مرّ عليك هذا العام؟ كالحلم؟ هل كسر أحدهم قلبك، فشعرت بالنار تسري في عروقك، ثم أنك لا تملك رفاهية الانهيار؟ هل التقيت أحد مصّاصي الطاقة حولك؟ هل تمنيت أمنيات كثيرة ولم تتحقق جميعها؟ ثم تساءلت لماذا لم أنجح في تحقيقها؟ هل فقدتَ عزيزاً إلى الأبد هذا العام؟ هل يعاني بلدك الحروب؟ هل تنام تحت القصف؟ هل أُصبت بفيروس كورونا؟ لماذا نجوت؟ هل أنت بخير؟
مفهوم الصحة النفسية يتجاوز مفهوم حالات العجز
لنتّفق على أن صحتك النفسية جزءٌ مهم من صحتك. هذا ما تقوله منظمة الصحة العالمية باستمرار. وتعرّف الصحة بأنها حالة من اكتمال السلامة، بدنياً وعقلياً واجتماعياً، لا مجرّد انعدام المرض أو العجز. ومن أهمّ آثار هذا التعريف أنّ شرح الصحة النفسية يتجاوز مفهوم انعدام الاضطرابات أو حالات العجز النفسية. حسناً، ما هي الصدمة النفسية بالدقة؟ تعرّف جمعية علم النفس الأميركية الصدمة النفسية بأنها استجابة لاإرادية لحدث مرهق للغاية وأكبر من الاستيعاب، مثل الوجود في منطقة حرب أو كارثة طبيعية، كما قد تحدث نتيجة أمور معنوية، مثل التعرّض لموقف محرج أو قاسٍ عاطفياً.
ويشعر المصاب بالصدمة بمجموعة من المشاعر بعد الحدث، وفي المدى الطويل، مثل الإرهاق والعجز وصعوبة التصالح مع التجربة. وبطبيعة الحال، لا يتعرّض كلّ مَن يواجه المواقف القاسية للصدمة، يعتمد الأمر على النفسية والقدرة على التحمّل والخبرات السابقة. لكن، كيف يتم تحديد عوامل تأثير الحدث الصادم في الشخص؟ هناك عدد من المسببات، كالسمات الشخصية والخبرات السابقة، والمعاناة من أمراض نفسية، والخلفية الثقافية والاستجابات العاطفية للمشاعر.
تتكثّف تجاربنا وكذلك معاناتنا بعد كل سنة تمر. يضجّ هذا العالم بالأحداث والقصص، التي قد تؤثّر سلباً أو إيجاباً في صحتنا النفسية. يقال إن ثمّة أحداثاً عندما تقع لا تعود بعدها الحياة كما كانت. هذا بالنسبة إلينا كأفراد، فكيف هي الحال بنا ونحن جماعات من كل بقاع الأرض نتعرض كل يوم لأحداث أقسى من اليوم الفائت؟ ماذا عن هذا العام؟
ماذا حدث عام 2021؟
هذا يعتمد على ماذا تريد أن تعرف؟ إذا ذهبت إلى محركات البحث، فلن تستطيع معرفة ما حدث لك هذا العام. هذه خدمة غير متوافرة. تتباين درجات القياس وتصنيفات الأشياء بين شخص وآخر. لذلك، تذهب المنصات إلى تصنيف الأكثر أهمية عبر الأرقام، والأشياء الأكثر بحثاً في المحركات الرقمية.
اقتحام مبنى الكابيتول الأميركي، مطلع كانون الثاني/يناير الماضي، صُنّف من أهم الأحداث التي جرت عام 2021 مثلاً، بينما تصدّرت كلمة “القفازات” قائمة البحث في كانون الثاني/يناير على مستوى العالم. كما كانت كلمتا “حريق” و “فيضان” الأكثر رواجاً في عمليات البحث، في تموز/يوليو.
لن تعرف أبداً بماذا يهتم العالم، والدليل أن أبرز مؤشرات البحث عام 2021 جاءت غريبة وغير متوقَّعة. عمليات البحث العالمية عن “أين يمكنني أن أسافر”، كانت أعلى بـ 3 أضعاف في عام 2021 مقارنة بمستويات ما قبل انتشار فيروس كورنا. كذلك، وصلَ الاهتمام بالبحث عن “كيفية الحفاظ” إلى أعلى المستويات على الإطلاق في جميع أنحاء العالم هذا العام. وارتفع منسوب تصفّح الأخبار السلبية أكثر من أي وقت مضى هذا العام. هوس تصفّح الأخبار السلبية هو الاستمرار في قراءة الأخبار السيئة في وسائل التواصل الاجتماعي، وتوقّع المزيد منها. وعلى الرغم من أن هذا المصطلح موجود منذ عام 2018، فإن عمليات البحث عنه زادت أكثر من أي وقت مضى في كانون الثاني/يناير 2021. كذلك، تمّ البحث عن عبارة “كيف أعتني بصحتي النفسية” هذا العام على مستوى العالم أكثر من أي وقتٍ مضى.
كيف أَثْقَل فيروس كورونا صحتنا النفسية؟
للعام الثالث، ينتشر فيروس كورونا حول العالم، ويتسبب بخسائر في الأرواح. لكل حالة وفاة قصة، وهي فريدة من نوعها، وتمثّل خسارة في الأسرة والمجتمع. لكن، في المجمل، يمكن أن تبدو حصيلة القتلى على المستوى الوطني مجرّدة، ويمكن أن يصبح تكرارها المستمر في الأخبار مخدِّراً. يبحث الصحافيون والمسؤولون عن وسائل جديدة لنقل خطورة هذا الممرض حتى لا يعتاد الناس الموتَ، فـ”الإنسان كائن يعتاد كل شيء”. وتعوُّدُ الموت هو أكثر ما يمكن أن يدمّر الصحة عموماً، والصحة النفسية بصورة خاصة. زاد انتشار الفيروس في مشاكل الكوكب أضعافاً. ووسط تخفيف القيود المتعلّقة بارتداء الأقنعة وإجراءات التباعد الاجتماعي، أدى وصول متحوري “دلتا” و”أوميكرون”، هذا العام، إلى إضعاف الآمال في العودة إلى الحياة الطبيعية.
تسبّب كورونا بتعزيز الاقتصاد غير المتكافئ، وساهم كذلك في توسيع خسائر الدخل والتفاوت في نِسَب التعلّم للأفراد والدول، بحسب البنك الدولي. كذلك، عزز فقر الفقراء، وزاد في حجم المعاناة لدى الضعفاء. تسبّب بانتكاسات في التنمية وفي الجهود المبذولة من أجل إنهاء الفقر والحد من عدم المساواة. بسبب الوباء، ارتفع الفقر المدقع في عام 2020 لأول مرة منذ أكثر من 20 عاماً. والطريقة الأسرع لإنهاء الوباء، بحسب منظمة الصحة العالمية، هي تلقّي اللقاحات. ومع ذلك، ما يزيد قليلاً على 7% من الأشخاص في البلدان المنخفضة الدخل يتلقّون جرعة من اللقاحات، مقارنة بأكثر من 75% من السكان في البلدان ذات الدخل المرتفع. حتى التعافي العالمي في الاقتصاد وكورونا سيكون غير متكافئ.
الانتحار أيضاً شاع في زمن “كوفيد – 19”. قبل الحديث عنه، من المهم التأكيد أن السؤال عن العدد ليس سؤالاً جافاً، أو لمعرفة الرقم فحسب. هذه الأرقام تمثّل الأرواح الحقيقية المفقودة، والأُسَر الحقيقية المدمَّرة. وعلينا أن نتفق أيضاً على أنه لا يوجد معدَّل انتحار مقبول، سواء كان مرتفعاً أو منخفضاً. منذ الأيام الأولى للوباء، كان هناك قلق من أن الانتحار قد يزداد. ولم يكن من الصعب معرفة من أين تأتي المخاطر: القلق بشأن العدوى، والعزلة، والعنف المنزلي، وتناول الكحول بشكل مفرط، والركود.
تشير الدراسات إلى أن الانتحار كان السبب الرابع للوفاة بعد إصابات الطُّرق ومرض السل والعنف بين الأشخاص عام 2021. ومع أن الانتحار هو أحد أكثر أنواع الموت التي يمكن تفاديها، فلقد أدّى فيروس كورونا إلى تفاقم عوامل الخطر المرتبطة بالسلوكيات الانتحارية، ولم يكن تأثيره موحَّداً عبر المجتمعات. لكن، بالنظر إلى الدراسات، لا يمكن تحديد عدد مرتبط مباشرة بفيروس كورونا. كيف لنا أن نعرف؟ كيف نجمع بين الأدلة على الانتحار وما تخبرنا به الاستطلاعات، وبين أسباب الانتحار السابقة؟ ربما في مواجهة الأزمات، كان هناك شعور أكبر بالانتماء إلى المجتمع. ربما كان الاعتقاد أيضاً أن الأمر سينتهي قريباً.
كانت إحدى الحُجج الرئيسة ضدّ عمليات الإغلاق حول العالم هي تأثيرها في الصحة العقلية. الرئيس الأميركي دونالد ترامب استخدم هذه الحجة في أكثر من مرة. في أواخر آذار/مارس 2020، قال “سنخسر مزيداً من الناس من خلال وضع بلد ما في ركود أو كساد هائل.. ستكون هناك حالات انتحار بالآلاف”.
المفاجأة كانت أن عدد الأشخاص الذين يموتون بسبب الانتحار انخفض فعلاً بعد الأشهر الأولى من انتشار كورونا. في إنكلترا، أظهرت الأرقام أنه بين نيسان/أبريل وحزيران/يوليو 2020، كان عدد الأشخاص الذين انتحروا أقل بنسبة 18%مقارنة بالفترة نفسها من عام 2019، وأقل بنسبة 13% من متوسط الأعوام الخمسة.
صحيح أن فيروساً لم نكن لنعرفه في وقت سابق، غيرّ حياتنا وطريقة عيشنا وعاداتنا، وأثّر في صحتنا النفسية بصورة أو بأخرى. لكن، ربما في عملية البحث عن الذات التي ستتبع هذا الوباء، يمكننا التفكير في كيفية تعزيز الشعور بأن “الجميع في هذا معاً”، وقد يكون هذا كافياً إلى حد ما!
كيف أحبّ نفسي وأعتني بها؟
أنت أكثر من يعرف الجواب. وعلى الرغم من ذلك، فإن منظمة الصحة العالمية تنصح بـالقيام بـ 6 خطوات للاعتناء بصحتك النفسية.
أُوْلاها الحديث إلى شخص تثق به، وتعرف أنك سترتاح بمجرّد أن تقوم بفعل البوح. الصمت الدائم يفتك بك. حاول مشاركة الآخرين فيما تفكر فيه، والحديث عن الأشياء التي تزعجك. أنت لا تعرف كم يستطيع البوح أن يذلّل العقبات أمامك، ويصغّر حجم المشاكل بمجرد تقاسمها مع الآخرين.
ثم عليك الاعتناء بصحتك الجسدية، والاهتمام بصحتك وجسدك، مدخلأ للاهتمام بصحتك النفسية. حاول أن تمارس الرياضة باستمرار. لا تهتمَّ بمقولة إنك لا تملك الوقت. جميعنا لا نملك الوقت إلاّ إذا أردنا.
قُمْ بالأنشطة التي تستمتع بها. اقرأْ كثيراً إذا كنت تحب القراءة، قُمْ بإعداد طعام شهيّ إذا كنت من محبّي الطعام. اذهبْ إلى أماكن تشعر فيها بالسعادة. حاول دائماً أن تملأ وقتك بأشياء تعتبرها جميلة وتستمتع بها، أياً تكُنْ.
الابتعاد عن المواد المسبّبة للإدمان (كالكحول والمخدرات). هذه المواد ذات مفعول قليل وسريع. لن تُنسيَك أي شيء تريد نسيانه إلاّ بضعَ دقائق. ستكون مضطراً إلى الإقلاع عنها أيضاً بدلاً من الإقلاع عمّا يسبب لك الحزن، عدا عن أنها مواد خطيرة على صحتك، نفسياً وجسدياً، وستحوّلك إلى إنسان خَطِر على المجتمع.
خَصِّصْ دقيقتين للتركيز على العالم من حولك. انظُرْ جيداً إلى أي مكان تذهب إليه. في إحدى جلسات العلاج النفسي، طلب الطبيب من مريض أن يقوم بالتركيز أكثر على أي شيء يراه في الطريق بين البيت والجامعة، ويخبره بما رأى. في اليوم التالي، جاء المريض مندهشاً عندما لاحظ وجود ورود حمراء لأول مرة عند مدخل الجامعة، علماً بأنه كان طالباً فيها للسنة الثانية!
وأخيراً، تنصح منظمة الصحة العالمية بطلب المساعدة من متخصص. المتخصص هنا، في طبيعة الحال، هو الطبيب أو المعالج النفسي. بالمناسبة، يعجز الناس عن التفريق بينهما غالباً. صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية عرّفت الطبيب النفسي باختصاصي الصحة العقلية الوحيد، الذي يمكنه تشخيص الحالات الـمَرضية ووصف الأدوية. بينما يختص المعالج النفسي بعلم السلوك، ومهمته جعل المرضى يتبنّون سلوكاً طبيعياً من دون تناول الأدوية.
مؤسس مشروع السعادة الأميركي يقول إن ما أثبته عام 2020، أكثر من أي شيء آخر، هو أنه لا يوجد شيء مؤكّد على الإطلاق، وأنه ليس خطأَك حقاً إذا كنت تشعر بعدم اليقين أو القلق بشأن العام المقبل. ويرى أن الحلّ هو التركيز على شيئين يمكننا التحكم فيهما، والتأكد من ذلك: أنفسنا وعقليتنا.
وينصح، بدلاً من انتظار تحسّن العالم بعد حلول عام 2021، باغتنام الفرصة للتركيز على الداخل، وبالتركيز على إدارة التوقعات. فنادراً جداً ما يرتقي الأشخاص أو الأحداث من حولنا إلى مستوى توقعاتنا. وبالتالي، تؤدي التوقعات غالباً إلى خيبة الأمل والقلق.
قبل التفكير الجدي في الذهاب إلى الطبيب، وبدلاً من التركيز على ما أخذه عام 2021 منك، حاول التفكير جدّياً فيما بقي لديك، وكيف تحافظ عليه.