الدكتور حسين إسماعيل الأعظمي، وُلد في بغداد عام 1952م، من عائلة دينية تمارس المقام العراقي أبا عن جد، مارس رياضة المصارعة الحرة والرومانية من عام 1970 وحتى 1975م، أحرز عددا من البطولات في العراق، يعود الفضل في اكتشافه كقارئ للمقام العراقي إلى الموسيقار العراقي منير بشير، الذي جمعته به الصدفة.
إذ يؤكد حسين الأعظمي أن “تجربته الغنائية بدأت مع منير بشر”، ويوضح أنه التقى به في عام 1973 في معهد الدراسات الموسيقية في بغداد حيث أدى الأعظمي مقام “الرست” وهو من المقامات التي تتطلب صوتا خاصا لأدائه، عندها أُعجب بشير بأداء الأعظمي، إذ عرض عليه أن يترك رياضة المصارعة ويتجه إلى الفن وتحديدا قراءة المقام العراقي، وقد قال له بشير “سأجعلك ترى العالم كله”، ويقول الأعظمي، “أعتقد أنه أوفى بوعده”، وبالفعل ترك الأعظمي ممارسة رياضة المصارعة واتجه إلى قراءة المقام العراقي.
ويُعدّ الأعظمي حِرفيا في أدائه للمقام العراقي. وكانت البداية الفنية الفعلية للأعظمي في المتحف البغدادي في 23 مارس/آذار 1973م، ليصبح بعدها أول مدرّس أكاديمي للمقام العراقي، لأكثر من 30 عاما.
حصل حسين الأعظمي على بكالوريوس في العلوم الموسيقية من جامعة بغداد في عام 1991. وكان مدير بيوت المقام العراقي في بغداد وكثير من محافظات العراق. كما شغل موقع مدير فرقة التراث الموسيقي العراقي منذ عام 1978م، وحتى اضمحلال الفرقة في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، تحدّث الدكتور حسين الأعظمي في حوار خاص للجزيرة نت، عن أصول المقام العراقي وبداياته وانتشاره، بالإضافة إلى واقعه الحالي، وأبرز رموزه، كما أكد أهمية الحفاظ على هذا التراث الحضاري الإنساني من الاندثار.
شارك الأعظمي ولسنوات عديدة في مهرجانات عربية ودولية في سبيل نشر المقام حيث يؤكد أنه “زار أكثر من 70 بلدا أحيا فيها حفلات خاصة بالمقام العراقي”، منشدا بصوته المطواع أفانين النغم العراقي الجميل.
صدر للأعظمي عدد من الأبحاث الفنية والتاريخية تتعلق بالمقام العراقي، إذ كتب موسوعة المقام العراقي في أكثر 12 كتابا ورقيا طبعت في بيروت والجزائر وبغداد. كما صدر له كتاب موسيقي بعنوان “المقام العراقي بين طريقتين -دراسة موسيقية لفترة الصراع خلال القرن العشرين” (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت-عمّان). وكتاب “المقام العراقيّ ومبدعوه في القرن العشرين” (دار دجلة-عمّان)، ومن القصائد التي يواظب حسين الأعظمي على تأديتها في حفلاته، “فراقهم بكاني” لوضّاح اليمن، و”اختفت شمس الضحى” للبهاء زهير و”هم حملوني في الهوى” لحسام الدين الحاجري، و”أبدا تحن إليكم الأرواح” للسهروردي، و”المسلول” للشاعر اللبناني بشارة الخوري.
حاز الأعظمي العديد من الأوسمة والميداليات والشهادات والألقاب منها: جائزة الإبداع في العراق كأفضل مطرب لعام 1999، إضافة إلى جائزة (ماستر بيس) من منظمة اليونسكو عن بحثه في المقام العراقي، والذي تضمن تحليلا علميا لمجموعة من المقامات المهمة. كما حاز على لقب سفير المقام العراقي في عام 2003، وآخر موقع شغله الأعظمي في بغداد قبل مغادرته إلى المملكة الأردنية الهاشمية حيث يقيم حتى اليوم. وبمناسبة مرور 50 عاما على صعود الأعظمي خشبة مسرح المقام العراقي كان للجزيرة نت هذا الحوار.
النغم العراقي
*هل أسهم منير بشير في تحديد المسار الفني لحسين الأعظمي؟
طبعا الموسيقار الراحل منير بشير، حدد كثيرا من مساري الفني، حيث تعلمنا منه الكثير من المفاهيم والأفكار المعاصرة والأفكار الفنية، جعلنا نفهم كيف نحترم أنفسنا وكيف نحترم هذا الفن، وكيف نحترم الجمهور. ولديّ كتاب قادم جاهز للطبع عنوانه “ربع قرن مع منير بشير” ويتضمن الكتاب تجربتي مع منير بشير، مذكراتي معه حيث عشت معه 25 عاما من عام 1972 حتى الأسبوع الأخير كنت إلى جانبه في عمّان-الأردن، قبل أن يذهب إلى هنغاريا، ويتوفاه الله في عام 1997م.
*ما تعريفكم للمقام العراقي؟
ليس هناك تعريف واحد وشامل للمقام العراقي، فهناك تعريف موسيقي وغنائي واجتماعي وفني وعلمي وتقليدي وبيئي للمقام العراقي، لأنه تراث قديم وعريق وحضاري لذلك لا يمكن أن نكتفي بتعريف واحد للمقام العراقي.. ويمكن أن نعرف المقام، هو فورم (شكل) فني غناسيقي (غنائي موسيقي) كلاسيكي تاريخي، ذو شكل ومضمون خاصين بالعراق تمييزا عن باقي الأقاليم في غرب وأواسط آسيا والوطن العربي، عمق كيانه عراقي عربي إسلامي وتأثيراته آسيوية.
الخصوصية البيئية
*هل يُعد المقام العراقي فنا مدينيا-يُنسب للمدينة- حيث لا نجده إلا في بغداد وكركوك والموصل وأربيل؟
بالتأكيد أن أُسس المقامات أعتقد أنها جبلية، ولهذا السبب إقليم شمال العراق وكل غرب آسيا هي بيئة جغرافية مقامية أساسا، بغداد أرض منبسطة مستوية ليس فيها مقامات بالأصل كما نعرفها اليوم، وكلمة المقام العراقي لا تعني بالضرورة مقامات أخرى، وهذه خصوصية بيئية خاصة بالمقام العراقي، ولهذا السبب المقام العراقي في بغداد أصبح مدنيا، لأنه أُدي وتطور ونشأ في أجواء مدنية، ولهذا السبب نرى الفواصل الموجودة في الغناء، فواصل موسيقية حضارية ليست قروية، وليست جبلية تحديدا كبيئة ثابتة، المدينة بيئة متحركة ولهذا السبب كبيئة عقلية ثقافية فكرية نرى أبعاد الفواصل الموجودة في المقامات العراقية في بغداد متباعدة وكبيرة جدا.
*لماذا يعمد قرّاء المقام العراقي إلى الاستهلال غالبا بكلمات وألفاظ خارجة عن النص الشعري المُغَنى، مثل: “أمان أمان”، أو “ويلاه ويلاه”، أو”يابويا”؟
هذه عبارة عن استهلالات فالمقرئ عندما يريد أن يغني قصيدة، فيعمد إلى الاستهلال ببعض الألفاظ، لا يريد المباشرة بكلام القصيدة إنما يريد أن يهيئ أو يستهل، فهذه حالة معروفة في كل الأشكال الموسيقية، وليس فقط في المقامات العراقية، وهذه مسألة طبيعية تعود أسبابها إلى الشكل الموسيقي أو الشكل الغنائي لذلك اللون من الغناء.
الجمال المسموع
*لماذا أُطلق على مؤدي المقام اسم مُقرئ، وليس مغنيا أو مؤديا؟
لأن هذه الموسيقى في الحقيقة أصلها ديني أساسا، ولهذا السبب نرى المقامات تؤدى في التلاوة القرآنية، وفي الشعائر الدينية كلها، المنقبة النبوية التهاليل الأذكار التمجيد من على المنابر هذه كلها المؤدي الذي يؤديها يطلق عليه اسم: قارئ، هي إذا مفردة دينية، فأنا أعتقد أن المقام العراقي أواخر القرن الـ19 أو في القرن الـ20، بالذات اتضح أكثر من أي وقت مضى أنه أصبح غناء دنيويا بشكل مباشر، أُديت فيه كل قصائد الشعر أغراضا وأنواعا، كالقصيدة الخمرية والغزلية، هذه لا يمكن أن نطلق على مؤديها اسم قارئ، كما أن قارئ القرآن الكريم يسمى قارئ القرآن، فهنا لا يمكن أن نطلق على مؤدي القصائد الغزلية اسم قارئ، ونقارنه مع قارئ القرآن، وفي القرن الـ20 أصبح مؤدي المقام العراقي مغنيا ومطربا للمقام العراقي.
التمازج الحضاري
*نرى بعض الألفاظ الفارسية والكردية والتركية يرددها قارئ المقام العراقي أثناء قراءة المقام في مواضع معينة؟
المفردات الموجودة في المقامات العراقية هي نتيجة التمازج للأقاليم المجاورة للعراق، هناك حدود جغرافية مع إيران وتركيا وبعض البلدان العربية، ذلك التمازج الحضاري يؤدي إلى تأثيرات، فالعرب لهم تأثير على الأمتين الإيرانية والتركية من خلال اللغة العربية. فهناك مفردات موجودة ضمن اللغة الفارسية والتركية أغلبها عربية، في حين المفردات الأعجمية قليلة ضمن اللغة العربية، وذلك يعود بشكل أكبر نتيجة للدين الإسلامي فهو المؤثر الحقيقي بالنسبة للغة العربية وتأثيرها على باقي الشعوب. فعلى سبيل المثال قبل سقوط العباسيين 656ه/ 1258م، كانت المفردات كلها عربية، وبعد نهاية حقبة العباسيين وبدء الفترة المظلمة أصبحت هناك تأثيرات أعجمية مباشرة في الألفاظ والغناء وغير الغناء.
كتاب “إعتراف الأمم المتحدة بالمقام العراقي” لحسين الأعظمي (الجزيرة)
ما المقامات التي تُعَدُّ الأقرب إليك؟
كل المقامات العراقية هي قريبة إلى نفسي، أعتقد ليس هناك شيء جميل وآخر غير جميل، الجمال هو نجده عند المؤدي، ومن ثم يخضع هذا المؤدي للظروف المواتية للأداء الصحيح والجميل، عند ذاك نستطيع أن نقول إن هذا الأداء جميل ونقي. فالمادة بالأساس كلها جامدة، المؤدي هو الذي يعطيها الحياة والجمال، والموسيقى من بين كل الفنون على الإطلاق الوحيدة التي هي جمالها يتميز بالجمال المسموع، دون أن تستمع إلى الموسيقى فهي ليس لها وجود، عندما تستمع إليها يكون لها وجود في أذن السامع، والشيء الجميل بيد المؤدي والظروف المواتية.
بغداد
*هل كان للمقاهي العراقية دور بارز في انتشار هذا الفن الراقي-المقام العراقي-؟
نعم بكل تأكيد كان للمقاهي العراقية دور بارز في انتشار هذا الفن، كانت هي المسرح الوحيد، يعني قبل 500 سنة لا يوجد مسارح كاليوم، في الحقيقة بعد سقوط العباسيين أصبحنا في مرحلة مظلمة، ولهذا السبب كانت المتنفس الوحيد للجماهير هي المقاهي البغدادية، واشتهر الكثير من تلك المقاهي، مقهى الزهاوي ومقهى أم كلثوم، والشابندر وعزاوي ومقهى الشورجة والشط.
بمن تأثر قارئ المقام حسين الأعظمي من الذين أدوا المقام العراقي من الرعيل الأول؟ الحقيقة أنا تأثرت بالبداية بأستاذنا محمد القبنجي، ويوسف عمر وعبد الرحمن العزاوي، وكل المغنين أستمع لهم وأحاول أن أستفيد وأبحث عن المواقع المتوقدة في غنائهم لكي أستفيد منها وأوظفها في المقامات التي أغنيها أو أسجلها.
*هل تؤيد ما يُقال بأن المقام العراقي فن رجولي؟
أولا: أريد أن أميز بين كلمة فن رجولي وفن رجالي، الرجالي نعني به أن الجنس رجالي أو نسائي، أَمَّا فن رجولي، الرجولة تعني هنا الأخلاق، فهو فن رجولي إذا كان للنساء وإذا كان للرجال، فالرجولة أخلاق شجاعة كرم وفاء مروءة، هذه كلها موجودة لدى الرجال والنساء، ولهذا السبب نرى مغني المقام العراقي الحقيقيين أُناسا أوفياء محترمين محافظين وأهل موقف، فمن الناحية الأخلاقية هو فن رجولي بحق.. أما هو فن رجالي، فأنا أعتقد أن هذا التمييز يحب أن ينتهي، المرأة لها تعابيرها الخاصة كامرأة، والرجال لهم تعابيرهم الخاصة كرجال، فلا يعقل أن أجعل من التعابير النسوية الرقيقة تعابير خشنة، من المستحيل أن نستوعب ذلك، الرجال أو المستمع بشكل عام حتى النساء كجمهور لا يستمعون إلى امرأة تقلد الخشونة الأدائية في المقامات العراقية، كالرجال، فهي من حقها أن تؤدي حسب رقتها ونعومتها، أَما الرجل يؤدي حسب خشونته وانفعالاته الرجالية، فهناك فرق بين رجولي ورجالي.. وأنا أؤيد وجود الفن الرجالي والفن النسائي لأداء المقامات العراقية.
*وهل كسرت سيدة المقام العراقي الأولى، فريدة محمد علي، القاعدة وتحدّت بصوتها النسوي، ما يُقال بأنّ المقام العراقي هو فن رجولي خالص؟
أعتقد أن السيدة فريدة تحدت بصوتها النسوي، ووازنت بين التعبير النسائي وشيء من التعبير الانفعالي الرجالي، ولهذا السبب اقتربت من جذب جمهور لها من الرجال والنساء، ونجحت نجاحا كبيرا.
*هل لكل مقام وقت محدد لأدائه مثلا في الأفراح والأحزان والمناسبات الدينية؟
بالتأكيد، هناك مقامات للأفراح ومقامات للأحزان وأخرى للمناسبات الدينية ولكل مناسبة لها مقام محدد.
*هل أثرت هجرة أبرز قراء المقام العراقي إلى خارج العراق على وضع وشعبية المقام في داخل العراق؟
هجرة قراء المقام العراقي إلى خارج العراق قد أثرت في الوُجود الداخلي ونمو وتطور المقامات داخل بلدنا في البيئة الأصلية للمقام العراقي. أكيد هناك أثر، ولكن هذا لا يعني في ظل عدم وجود الدعم المباشر من وزارة الثقافة لمغني المقام العراقي، لو كان هناك دعم للمقامات العراقية لسوف يظهر مغنون آخرون يرفدون الساحة بالكثير من الأصوات الجيدة، أنا أعتقد ذلك، ومن الضروري دعم وزارة الثقافة، وهذا الموضوع يقع على عاتقها فهي المسؤولة عن هذا الشيء.
كيف يتفاعل الجمهور الغربي مع المقام العراقي؟
من المعروف أن الموسيقى لغة الشعوب، وأنا غنيت في كل أوروبا على الإطلاق والبرازيل والولايات المتحدة، وغنيت في كل القارات، عقدين من الزمن وأنا أتجول في المهرجانات العالمية، وأشهر المسارح والأوبيرات العالمية، فالغالبية العظمى من الجمهور هو أجنبي، أَما الجمهور العربي واجهته في المهرجانات العربية التي غنيت فيها، فالجمهور الغربي يستمع إلى المقامات العراقية وإلى موسيقاها وتعابيرها الأصلية، والجمهور الغربي يفهم أن هذا الغناء هو غناء أصيل وتراثي.
هل تخشى على هذا الفن -المقام العراقي-من الاندثار؟
طبعا نحن دائما نخشى على هذا الفن من الاندثار، فالبحث الذي قدمته لليونسكو والذي فزت من خلاله بجائزة (ماستر بيس) العالمية، ومن خلالها اعترفت الأمم المتحدة بالمقام العراقي يمثل جغرافية العراق، هو بالأساس كان إثباتا للأمم المتحدة أن العراق مرّ ويمر بحروب وحصار وظروف غير طبيعية، في هذه البيئة قد ينتهي المقام العراقي كتراث إنساني، فعلى المنظمات الإنسانية، وخصوصا منظمة اليونسكو مسؤولية حماية وصون هذا التراث الإنساني لشعب من شعوبها على مستوى الكرة الأرضية.