للكاتب ميشيل شحادة
في عالمٍ تحكمه المصالح، وتتشكل خرائطه بالدم والنفط والمعادلات الصاروخية، قد يبدو حدثٌ سياسيٌّ عابراً، لكنه يحمل في طيّاته ما يزلزل التحالفات ويعيد رسم الاصطفافات. ومن هذا النوع كان قرار دونالد ترامب بفتح باب المفاوضات مع إيران، في خطوة جاءت على عكس رغبة بنيامين نتنياهو الجامحة في توجيه ضربة عسكرية شاملة لطهران، تشترك فيها الولايات المتحدة أو تتولاها “إسرائيل” بدعمٍ أمريكيٍّ مطلق.
فقد أعلن ترامب هذا القرار بشكل مفاجئ أمام الكاميرات، ونتنياهو بجانبه، الذي عامله ترامب بقدرٍ قليل من الاحترام حين استدعاه إلى البيت الأبيض، خلافاً لما اعتاد عليه سابقاً من تحضير مسبق ومن استقبال مفروش بالسجاد الأحمر. ولم يكن هذا التحوّل في الموقف الأمريكي تجاه إيران خطوة تكتيكية عابرة، بل يُرجّح أنه جاء نتيجة قراءة معمّقة للواقع الاستراتيجي في المنطقة، ولقدرات إيران وصمود “محور المقاومة” الذي ظل حاضرا بقوة في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية المتسارعة.
والسؤال الجوهري هنا: هل دخول واشنطن في مفاوضات مع طهران يعني أن الخيار العسكري قد أُلغي؟ الجواب معقّد. فالمفاوضات، في منطق السياسة الإمبريالية، ليست بديلاً عن الحرب بل أداة تمهيدية لها إن فشلت. وهي وسيلة لاختبار مرونة الخصم، أو ابتزازه، فإن لم يرضخ، تُطرح الحرب كخيار لإجباره على الاستسلام — خاصة إذا كان ضعيفًا، وتُوفّر المفاوضات حينها كلفة الذخيرة والطاقة. وإن تعنّت، تصبح الحرب أداة للإخضاع بالقوة.لكنّ إيران ليست دولة ضعيفة، ولم تركع على مرّ السنين، رغم الحصار الاقتصادي الجائر، والحصار السياسي والدبلوماسي. لقد قرأت واشنطن واقع المنطقة جيدًا، وأدركت أن شنّ حرب على إيران لن يكون نزهة، وأن “الضربة الأولى” لن تضمن لها النصر، بل قد تفتح أبواب الجحيم على قواعدها في الخليج، وعلى حليفتها المدلّلة إسرائيل.
فواشنطن تريد من إيران قائمة طويلة من التنازلات، تبدأ بتفكيك برنامجها النووي، ليس العسكري فقط، بل حتى السلمي، في محاولة لسلبها أي مقوّم لمكانة استراتيجية مستقلة. ثم تطلب منها أن تتخلى عن دعمها للمقاومة في فلسطين، ولبنان، واليمن، والعراق، كل ذلك لصالح تأمين التفوّق الإسرائيلي وتكريس الهيمنة الغربية على الإقليم. ويتبع ذلك رغبة أمريكية في تجميد أو تقييد برنامج إيران الصاروخي، وابتعادها الكامل عن سوريا، وتجميد علاقتها الاستراتيجية مع كل من روسيا والصين، ثم انخراطها في “محور التطبيع” الإقليمي مع الكيان الصهيوني والانضواء تحت المظلة الغربية. باختصار، تريد الولايات المتحدة “إيران جديدة” مطواعة، منزوية، لا تشبه إيران الثورة، بل أشبه بمصر مبارك أو أردن وادي عربة.
في المقابل، تَعِد واشنطن برفع العقوبات ومساعدات اقتصادية… وعودٌ لطالما بُنيت على سراب، كما حدث مع مصر والأردن اللتين بقيتا رهينتين للفقر رغم سنوات التطبيع والتبعية.ولن تشنّ أمريكا الحرب لأن كلفتها باهظة ومخاطرها جسيمة. فاليمن وحده أسقط أسطورة القوة الغربية على باب المندب والبحر الأحمر. فالقصف العنيف والمدمّر الذي استهدف اليمن شكّل ذروة ما لدى واشنطن، ومع ذلك، لم يفلح في كسر عنفوان اليمنيين، ولا في النيل من عزيمتهم وصلابتهم وصمودهم.
فأنصار الله لا يزالون يضربون السفن المتجهة إلى “إسرائيل”، ويستهدفون السفن الحربية الأمريكية، بل وصلوا إلى قصف وسط تل أبيب بدقة وحرفية. وهم، رغم الحصار والتدمير، لا يزالون قادرين على قطع شرايين التجارة العالمية إذا اضطروا.أما مضيق هرمز، رئة العالم النفطية، فيمكن أن يتحوّل إلى خنجر في الخاصرة الغربية إذا قررت إيران إغلاقه، تحت غطاء ردع صاروخي مدمّر، بصواريخ دقيقة مدفونة في الجبال، يصعب تدميرها وتعرف أمريكا خطورتها جيداً. والأسوأ: أن تؤدي الضربة إلى رفع الفتوى بتحريم السلاح النووي، فتبدأ إيران بتصنيعه علناً كوسيلة ردع نهائية. عندها تكون الحرب قد أفرزت ما كانت تحاول منعه وهو ما لا تملك واشنطن تحمّل تبعاته.