للكاتب وائل عوّاد
في خضم التصعيد المتزايد بين إسرائيل والولايات المتحدة من جهة، وإيران من جهة أخرى، تواصل الهند انتهاج سياسة “الصمت الاستراتيجي”، مدعيةً أن هذا الموقف يعكس توازنًا دقيقًا ونهجًا ناضجًا يراعي مصالحها القومية. إلا أن هذا الحياد الظاهري بات يواجه اختبارات متزايدة مع اقتراب نيران الأزمة من منطقة الخليج، التي تمثل للهند شريانًا حيويًا لأمنها الطاقي وامتدادًا بشريًا واقتصاديًا لا يمكن تجاهله. فالهند، التي ترتبط بتحالفات أمنية واستراتيجية مع واشنطن وتل أبيب، وتُعد شريكًا اقتصاديًا رئيسيًا لدول مجلس التعاون الخليجي، تعتمد على الخليج في أكثر من 60% من وارداتها النفطية، وتحتضن المنطقة ما يزيد عن 8.5 مليون هندي يشكّلون جزءًا لا يتجزأ من نسيجها الاجتماعي والاقتصادي في الخارج.
تربط الهند علاقات اقتصادية قوية مع الدول العربية، ولا سيما دول الخليج، وبدأت تشهد نموًا مطردًا وتعاونًا استراتيجيًا يعكس عمق الروابط التاريخية والمصالح المتبادلة. و تُعد دول الخليج من أبرز الشركاء التجاريين للهند، حيث تتصدر الإمارات والسعودية قائمة أكبر المستثمرين والمصدرين للنفط إلى السوق الهندي. وفي المقابل، تُعتبر الهند من أبرز الشركاء التجاريين للمنطقة، لا سيما في قطاعات الطاقة، وتكنولوجيا المعلومات، والمنتجات الغذائية، والبنية التحتية.
وتلعب الجالية الهندية دورًا محوريًا في هذا التقارب الاقتصادي؛ إذ يتجاوز عدد الهنود المقيمين في دول الخليج 8.5 مليون شخص، يشكلون أحد أكبر التجمعات السكانية الأجنبية في المنطقة. تسهم هذه الجالية بشكل كبير في اقتصادات الدول المستضيفة من خلال قطاعات الخدمات والبناء والصحة، فضلاً عن تحويلاتهم المالية التي تُعد مصدر دخل مهم للاقتصاد الهندي، وتتجاوز 60 مليار دولار سنويًا.
فهذا التشابك الاقتصادي والاجتماعي يجعل من استقرار الخليج أولوية قصوى للهند، ويضعها أمام تحديات دبلوماسية معقدة في حال اشتد التصعيد أو توسع الصراع في الإقليم. وفي ظل هذه المعادلات المتشابكة، يبرز سؤال جوهري: هل يمكن للهند الاستمرار في التذرع بالغموض الاستراتيجي، أم أن تطورات المرحلة المقبلة ستدفعها إلى اتخاذ مواقف أكثر صراحة ووضوحًا؟ فقد أثارت مواقف الهند الأخيرة جملة من التساؤلات في الأوساط السياسية والدبلوماسية، خصوصًا في أعقاب امتناعها عن التوقيع على بيان منظمة شنغهاي للتعاون، رغم كونها عضوًا فاعلًا في هذه المجموعة الإقليمية.
فقد رأت أطراف عديدة في هذا الموقف محاولة للهروب من الالتزام الجماعي، بالرغم من قناعة نيودلهي – المعلنة وغير الرسمية – بأن الضربات الإسرائيلية على إيران تشكّل انتهاكًا صريحًا للقانون الدولي واتفاقيات جنيف، التي تجرّم استهداف المنشآت النووية لأي دولة.واكتفت الهند، في ذروة التصعيد، ببيان باهت يدعو الطرفين إلى ضبط النفس وحل النزاع عبر الوسائل السلمية، دون أن تُدين الهجوم الإسرائيلي بشكل مباشر. واقتصر تفاعلها الرسمي مع التطورات على إجراء مكالمة هاتفية بين رئيس الوزراء الهندي ونظيره الإسرائيلي، وأخرى بين وزيري خارجية الهند وإيران، في مشهد بدا أقرب إلى إدارة التوازنات من اتخاذ موقف مبدئي واضح
تباهت نيودلهي على مدى العقود الماضية، بنهجها المتوازن في السياسة الخارجية، مستندة إلى مبدأ “اللا انحياز” الذي ميّز سياستها الخارجية في الحرب الباردة. إلا أن السنوات الأخيرة شهدت تقاربًا لافتًا بين الهند والولايات المتحدة، تُرجم في توقيع اتفاقيات دفاعية واستراتيجية، وتنسيق أمني غير مسبوق ضمن تحالف “كواد” الآسيوي الذي يضم كل من الهند واليابان والولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، وتقاطع مصالح في مواجهة النفوذ الصيني. والهند اليوم أقرب إلى واشنطن من أي وقت مضى، وتفضّل التناغم مع أولوياتها في الخليج، ولو من موقع الحذر. فهي لا تريد إغضاب الشريك الأميركي، ولا تقف أيضًا في وجهه علنًا، في سياق التنافس العالمي على النفوذ.