كيف نحوّل الدّين إلى أداة للمستقبل؟

ليلى نقولا

لم يترك الدّين يوماً الظّواهر السياسيّة أو العلاقات الدوليّة وشأنها، بل ارتبط بها بشكل أو بآخر، واحتلَّ مساحات معيَّنة من ظواهر الحكم، حتى ضمن تلك التي اعتُبرت “علمانية”.
يعتبر بعض المفكرين أن أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة الأميركية هي التي فرضت عودة “المقدس” إلى العلاقات الدولية، بينما يشير البعض الآخر إلى أنَّ سقوط الصراع الإيديولوجي بين الشرق والغرب بسقوط الاتحاد السوفياتي هو الذي أبرز إلى السطح الخصوصيات الثقافية، التي سرعان ما تحوَّلت إلى أسباب للنزاع والتوتر والحروب، فانفجرت يوغسلافيا السابقة تحت وطأة الحروب الدينية والتطهير العرقي، وتبعتها رواندا، التي شهدت إبادة عرقية متبادلة بين الهوتو والتوتسي، وكرَّت السبحة.
أما في العالم العربي، فقد سعّر الاحتلال الأميركي للعراق في العام 2003 الصراع المذهبي في المنطقة بين السنّة والشيعة، والذي دخلت “إسرائيل” على خطّه بقوة. في العام 2008، ناقش مؤتمر هرتسيليا الذي يُعقد سنوياً في “إسرائيل” ما أُطلق عليه وصف “الشرخ الشيعي – السني، جذوره وأبعاده الاستراتيجية”. وعلى مدى سنوات، اعتبرت توصيات المؤتمر أنَّ من مصلحة “إسرائيل” أن تسهم في تذكية ذلك الصّراع.
وخلصت توصيات المؤتمر نفسه في العام 2013 – وبكل وضوح – إلى “ضرورة تكريس الصراع السني – الشيعي، من خلال السعي إلى تشكيل محور سني من دول المنطقة، أساسه دول الخليج ومصر وتركيا والأردن، ليكون حليفاً لإسرائيل والولايات المتحدة، في مقابل “محور الشر” الذي تقوده إيران، والذي سيكون، بحسب التقسيم الإسرائيلي، محوراً للشيعة” (انظر توصيات مؤتمر هرتسيليا في العام 2013).
ومع انتشار موجات “الثورات” في العالم العربي في العام 2011، تفشّى الخطاب المذهبي والطائفي، وضرب الإرهاب الأبرياء والمدنيين، وساد خطاب التكفير، وبات الدين وحمايته ذريعة لممارسة أسوأ أصناف القتل والاغتيال والوحشية والتعذيب وقطع الرؤوس.
أما في أوروبا وأميركا، وعلى الرغم من أنَّ الأميركيين يعدّون أكثر تديّناً من الأوروبيين الّذين يعبّرون دائماً عن علمانيّتهم لتأكيد عدم عودتهم إلى القرون الوسطى، فإنَّ السعار الطائفي والإسلاموفوبيا ارتفعا بشكل كبير مع ارتفاع أسهم اليمين في الغرب، وخصوصاً بعد العام 2016، إذ فرض الرئيس السابق للولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب حظراً على دخول مواطني دول إسلامية عدّة، وارتفعت أصوات اليمين الأوروبي للتخويف من أنَّ الإسلام “سوف يكتسح أوروبا ويغيّر وجهها الثقافي”.
ولا شكّ في أنَّ معظم قرارات ترامب الخارجيّة، وخصوصاً في الشّرق الأوسط، وتلك المتعلّقة بـ”إسرائيل” والقضية الفلسطينية، طغى عليها الطابع الديني الاستثماري لنصوص العهد القديم الَّذي يؤمن به مسيحيو الكنائس الإنجيلية في الولايات المتّحدة الأميركيّة.
هكذا يجد العالم نفسه اليوم أمام مرحلة جديدة تستحضر الموروث الدينيّ لصياغة سياسات خارجيّة وداخليّة شعبوية، تشي بأنَّ استمرارها سيعيد العالم إلى قرون خلت، حين تسبّبت الصّراعات باسم الدّين بالكثير من الظلم والمآسي وقهر الشّعوب، وخصوصاً في منطقتنا العربيّة، فما العمل؟
المؤكّد أنّ أيّ دعوة لتنحّي الدين عن السياسة لن تجد صداها في عالم يجنح بسرعة للعودة إلى ما يُشبه ممارسات القرون الوسطى، إذ يترابط الدين والثقافة في علاقة جدليّة، فيأخذ الدين من الثقافة حتى يصوغ مفرداته وسلوكياته، ثم ما يلبث أن يتحول إلى نواة الثقافة، فيفرض عليها مفردات وسلوكيات أخرى. هكذا، نرى الترابط الواضح في عالم اليوم بين عنصرية “الأنا” الثقافيَّة ضدّ “الآخر”، وعنصريّة “الأنا” الدينيّة ضدّ “الآخر” المختلف دينياً.
كما أنَّ الدّعوات لنبذ الدّين والتديّن غير منطقية في مجتمعات يشكّل الدّين فيها جزءاً لا يتجزأ من الثقافة المجتمعية والسياسية، حتى الدعوات إلى الوعي السياسي العلماني، وتعديل القوانين لتكريس الدولة المدنية، وإلغاء الطائفية السياسية (كما يحصل في لبنان)، لن تستأصل ما في النفوس من عنصريّة وتعصّب طائفيّ ومذهبيّ ضد الآخر المختلف دينياً.
هكذا، يكمن الحلّ في التّعليم. وتشير الدّراسات إلى ترابط مستوى التعليم مع نزعة التطرّف العنيفة، فكلَّما زادت مستويات التعليم في المجتمع خفّ عدد المنضوين في المجموعات المتطرفة التي ترتكز على الدين للوصول إلى غايات سياسية.
ولكي لا يلجأ الطالب في العالم العربيّ إلى مصادر غير صحّية وتكفيريّة لاكتساب معارفه الدينية، على المناهج التربوية أن تتحلّى بالشجاعة لمواجهة هذه الآفة، بأن تتحوّل من “التعليم الديني” إلى “التثقيف الديني” ضمن حرية الاعتقاد للجميع، والذي يمكن أن يتضمّن فئات ثلاث، هي:
1- ثقافة عن الأديان: المقصود بهذه الثقافة تعليم الطالب عن دين معيّن (عادةً ما يكون دينه الخاص)، بهدف إكسابه القيم الروحيّة والأخلاقيّة والشّخصيّة، وبناء هُويته الدينية، وتعليمه كيفيّة ممارسة طقوس الدّين الَّذي ينتمي إليه.
2- ثقافة حول الأديان: هي الإطار الَّذي يمكن أن يمنح الطالب معرفةً واطلاعاً على أفكار ومبادئ أديان عدّة، فيكتسب ثقافة قبول الآخر، انطلاقاً من المبدأ القائل إنَّ “الإنسان هو عدوّ ما يجهل”.
3- ثقافة من الأديان نفسها: تأخذ بعين الاعتبار التجارب الشخصيَّة للطلاب، بأن تترك هامشاً للطالب لتكوين فكره الخاصّ المستند إلى التعليم والتجربة، فيختار ما يناسبه وما يتلاءم مع تطلّعاته.
هذا التحوّل الَّذي يطوّر الدّين ولا يلغيه ولا يحاربه، يتطلّب شجاعة استثنائيّة يحتاجها العالم العربي بشدّة، للخروج من دوامة التّقاتل والتناحر باسم الدين، فهل من قيادات تتطلّع إلى المستقبل بدلاً من أن تغرقنا في التاريخ وحروبه ومآسيه؟

مقالات ذات صلة