بعد قمّة طهران التي جمعت رؤساء إيران وروسيا وتركيا يوم 19 تموز/يوليو 2022، انعقدت قِمة بين الرئيس الروسي بوتين، والتركي أردوغان في سوتشي يوم 5 آب/أغسطس 2022، أي بعد سبعة عشر يوما فقط. وبعكسِ قمة طهران التي انتهت بأجواء مشحونة بخصوص سورية بين إيران وروسيا من طرف وتركيا من طرف آخر، فقد كانت قمة سوتشي موضع تفاؤل بين الرئيسين الروسي والتركي.. وقال عنها أردوغان أنها “ستجلب أجواء الارتياح إلى المنطقة” ولكنه لم يوضِّح كَيف، إلّا أنهُ يُفهَم من ذلك أنّ هناك تفاهمات خاصّة تمّ التوصُّل إليها بين بوتين واردوغان، وتصبُّ في مصلحة تركيا..
فما الذي تغير ؟ فالرئيس بوتين هو من طلبَ عقد اللقاء مع الرئيس التركي في سوتشي.. فقد شعرَ أن خروج أردوغان غيرُ راضٍ من قمّة طهران، رُبّما سينعكس سلبا على روسيا في أوكرانيا.. فأردوغان سريع التقلُّب، وقد ينقلب موقفهُ إزاء روسيا بِما لا يُرضيها إطلاقا.. فهو اليوم يمسك العصا بالمنتصف..و إنهُ ضد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ومع توسيع حلف الناتو، ولا يعتبر ذلك خطرا على روسيا، ولكنه بالمقابل لم يمضي مع الناتو والغرب في تطبيق العقوبات ضد روسيا، ولم تتأثر علاقات بلاده بروسيا، بل على العكس استفاد جدّا من الوضع القائم والتوتر بين الغرب وروسيا، وتعزّزت علاقات بلاده التجارية والاقتصادية، القوية بالأساس، مع موسكو، ولعِبَ دور الوساطة بين موسكو وكييف، وكان شريكا أساسا في اتفاق تصدير الحبوب من موانئ أوكرانيا.
فالعلاقات التجارية والاقتصادية الضخمة بين موسكو وأنقرة، تجعل الرئيس بوتين يُداري أردوغان، وخاصّة في هذا الزمن، لاسيما أن تركيا هي الدولة الوحيدة من دول الناتو التي ما تزال تتعامل مع روسيا، وكأنّ شيئا لم يحصل.. ولا أُبالغُ إن قلت، أن بوتين على استعداد لِمُداراة أردوغان حتى لو كان على حساب سورية، فالدول مصالح وليست جمعيات خيرية، وكما قال بوتين نفسه ذات مرّة: لا صداقة بين الدول وإنما مصالح.ففي العام الفائت 2021 بلغ حجم التبادُل التجاري بين روسيا وتركيا 33 مليار دولار.. ويتطلّع البَلدان لِرفعها إلى 100 مليار دولار في الأعوام القادمة من خلال حُزمة اتفاقيات بين البَلَدين.
ونفّذت روسيا مجموعة مشاريع ضخمة في تركيا، أبرزها خط أنابيب السيل التركي لِنقلِ الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا عبر الأراضي التركية.. وهذا يعودُ على تركيا بعائدات كبيرة.وكذلك يتمُّ تنفيذ مشروع للطاقة النووية السلمية في مرسين، ومصنع شاحنات الغاز.. بينما تبقى تركيا المقصد الرئيس للسوّاح الروس..وفي لقاء سوتشي الأخير، تطرّق البيان الختامي إلى سورية في ثلاث جُمَل مُكرّرة عشرات المرّات، وهي دفعُ العملية السياسية من أجل الوصول إلى حل دائم في البلاد، والحرص على وحدة وسلامة الأراضي السورية، والعمل على مكافحة جميع المنظمات الإرهابية.
ولذلك لجأ أردوغان ومنذ فترة من الزمن، إلى نزعِ كافة الأوراق التي يمكن أن تستخدمها المعارضة ضدّهُ في سبيل إضعافهِ شعبيا..أي انه عاد إلى نظرية أحمد داوود أوغلو، رئيس الوزراء ووزير الخارجية السابق المعروف بـِ (خيار الِصفر) أي تصفير كافة مشاكل تركيا في المحيط الإقليمي.. والاستفادة من الإرث التُركي العثماني في علاقات تركيا الخارجية، ومن الموقع الجيوــ سياسي لتركيا.. وهذا ما عبّر عنهُ في كلمته أمام حفل تخريج طلاب ضباط وصف ضباط من أكاديمية الدرك يوم الإثنين 22/8/2022 .وهذا سينزع من المُعارضة كافة الأوراق التي قد تستغلها ضدّهُ واتهامهِ بالفشل في سياساته الخارجية.. ومن هنا جاءت مناوراتهِ سابقا مع دولة الإمارات ومع السعودية ومع مصر ومع إسرائيل، واليوم مع سورية.
فالخلافات مع تركيا كبيرة جدا، وحلّها صعبٌ جدّا طالما تركيا مُتمسكة باحتلالها، ودعمها للتنظيمات المتطرفة في إدلب، والمُصنّفة إرهابية بمعايير الأمم المتحدة.. وكافة اللقاءات الدبلوماسية ليست أكثر من طرح وجهات نظر، وجسٌّ للنبض، وتبرئة ذمّة، ولكن سيبقى بالنتيجة كل طرف متمسكٌ بموقفهِ، فمن غير المعقول أن تتنازل دمشق عن مطالبها حتى لو أغضبَ ذلك موسكو، ولا أردوغان سيتنازل عن مكاسبهِ.. وتبقى مسألة التسوية في سورية أكبر بكثير من ذلك.. لقد باتت مسألة دولية، والحدود التقسيمية اليوم المفروضة بِحُكم الأمر الواقع، لن تزول إلا بتسوية دولية واتفاق روسي أمريكي تركي إيراني، في الدرجة الأولى.. وهذا لا يلوح في الأفُق حاليا.