أعلنت تركيا عزمها على التوسط بين روسيا والغرب في الأيام القليلة القادمة، من أجل إجراء مفاوضات بين الطرفين في أنقرة، كما صرح الناطق الرسمي باسم الرئاسة التركية، لإيجاد حل سلمي للأزمة التي ما فتئت تلقي بظلالها السلبية على الاقتصاد العالمي، ما يطرح السؤال عن فرص نجاح هذه المفاوضات أو فشلها.وتهدف المفاوضات إلى إيجاد تسويةٍ مقبولةٍ حول قضية معينة بين طرفين أو أكثر، لتحقيق مكاسب متبادلةٍ لجميع الأطراف المفاوضة بأقل تكلفة، عن طرق تقديم تنازلات متبادلة.
وانطلاقاً من مبدأ رابح رابح أو رابح خاسر، بحسب الموقف التفاوضي للأطراف، ومدى امتلاكها أوراق ضغط للوصول إلى أهدافها، بيد أنَّ السّؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي سيقدمه الطرفان الروسي والغربي لبعضهما بعضاً في حال إجراء المفاوضات بينهما؟وباستقراء المواقف الغربيّة، لا توجد مؤشرات حالية على نية التفاوض مع روسيا، لعدة عوامل أهمها إجماع الدول الغربية على تقديم المزيد من المساعدات العسكرية لكييف، بهدف إطالة أمد الصراع بين روسيا وأوكرانيا، في مسعى لإحداث اختلال في الميزان العسكري الميداني لمصلحة كييف، في وقت ما زال يميل إلى مصلحة موسكو، رغم بعض الانتكاسات هنا وهناك، بدليل تصريحات أمين عام حلف الشمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ، ومفادها أنَّ انتصار روسيا سيكون هزيمة للحلف، ولا يمكن السماح بذلك.
أما في الجانب الروسي، فقد أطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العملية العسكرية الخاصة في شباط/فبراير من العام الحالي، بهدف حماية المواطنين الروس القاطنين في الشرق الأوكراني، وهي العملية التي أدت إلى سقوط أغلبية مناطق الشرق الأوكراني في يد القوات المسلحة الروسية، والتي ما زالت بيدها رغم التراجع الذي حصل في الأيام الماضية في بعض المناطق، كان آخرها مدينة ليمان الإستراتيجية، إلا أنَّ الوضع على الأرض ما زال يميل إلى مصلحة الروس.وفي ضوء ذلك، أُجْرِيَ الاستفتاء في جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك أفضى إلى انضمامهما إلى الاتحاد الروسي بشكل نهائي.
وفي خضم ما تحقق من مكاسبَ روسية، لا يمكن للكرملين أن يُقْدِمَ على منح تنازلات للجانب الأوكراني، من قبيل إرجاع هذه الأراضي إليه، بعد كلّ هذا الجهد العسكري الذي بذلته روسيا في سبيل ذلك، لأنَّ من شأن ذلك إحداث رد فعل في الداخل الروسي، قد يفضي إلى اندلاع انتفاضة داخل روسيا، وهو ما ترغب واشنطن فيه، ولا سيما بعد فشلها في زرع الاضطرابات السنة الماضية على يد الليبرالي المعتقل أليكسي نافالني.لذا، يدرك الطرفان الروسي والغربي أن أي مفاوضات في الوقت الراهن شبه مستحيلة، لأن روسيا لن تتنازل عن الأراضي الذي ضمتها في الآونة الأخيرة إلى الاتحاد الروسي، بالرغم من تصريحاتها باستعدادها للتفاوض، لكنها تصر على إتمام العملية العسكرية الخاصة إلى حين تحقيق أهدافها كاملة.
لكن ثمة ورقة قد يراهن عليه الرئيس فلاديمير بوتين، هي الوضعية الاقتصادية التي باتت يعيشها الغرب بسبب ارتفاع أسعار الطاقة، ووصول معدلات التضخم فيها إلى مستويات غير مسبوقةٍ، بسبب فرض العقوبات على روسيا، وخروج الأوروبيين في تظاهرات منددة بارتفاع الأسعار ونقص الإمدادات الطاقية، وخصوصاً مع اقتراب فصل الشتاء، ما قد يدفع الغرب إلى إعادة النظر في طريقة إدارته للأزمة مع روسيا أو إحداث انشقاقٍ في الغرب.أما أوكرانيا، فيبدو أنَّها لا تملك سلطة قرار التفاوض مع موسكو، والذي يبقى مرهوناً بقرار واشنطن. وقد سبق للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن أعلن عدة مرات قبل بداية الحرب وبعدها استعداده للتفاوض.
لكن من دون أن يترجم إلى واقع بسبب الأوامر الصادرة عن واشنطن بعدم إجراء أيّ مفاوضات مع موسكو. وعلى فرض حصول هذه المفاوضات، فلا يمكن أن تسفر عن أي نتيجة، فمن غير المتوقع أن يتنازل زيلينسكي لموسكو عن الأراضي التي ضمتها في الآونة الأخيرة إليها.من خلال ما تقدم، يتبين أنّ أيّ مفاوضات بين الغرب وروسيا بوساطة تركية، إذا حدثت، ستكون فاشلة، بسبب تمسك الطرفين بمواقفهما، ومراهنتهما على إحداث تغييرات في معسكر الآخر، والتي تبقى رهينة بما سيحصل في سوح الوغى. ومع كل هذا، عوّدتنا السياسة أنها فن الممكن، وكل شيء وارد في المستقبل.