تركيا وروسيا بين السلاطنة والقياصرة

للكاتب عبد الحميد فجر سلوم

لم تعرف العلاقات الروسية التركية في تاريخها الاستقرار والسلام إلا لفترات محدودة، ثم يعود القتال والمواجهة إما لأطماع توسعية بين الإمبراطوريتين أو لأسباب دينية، إلا في هذا الزمن الذي يتربّعُ فيه على عرش روسيا رئيسٌ مُعتزٌّ بتاريخه القيصري، وعلى عرش تركيا رئيسٌ مُعتزٌّ بتاريخه العثماني..ففي زمن السلاطين والقياصرة (وحتى بداية العهد السوفييتي) وعلى مدى أكثر من 400 عام خاضت روسيا وتركيا ثلاثة عشر حربا .وحتى في زمن الحرب الباردة بين العملاقين، الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، كانت تركيا رأس حربة للغرب في وجه الإتحاد السوفييتي، إذ انضمّت للناتو عام 1951، بعد عامين من تأسيسهِ، وامتلكت ثاني أكبر جيش بعد الولايات المتحدة، في الحلف.

 وبعد تفكُّك الاتحاد السوفييتي وانهيار منظومة حلف وارسو، انقلبت المعادلات الدولية، وأصبحنا في عالمٍ سريع التغيُّر، وانضمت الدول الحليفة لموسكو بالأمس إلى عضوية الناتو وعضوية الاتحاد الأوروبي.. واستمرت تركيا بالناتو ولكن لم تُقبَل بالاتحاد الأوروبي لأنها لم تُلبِّي شروط الانضمام بسبب قضايا حقوق الإنسان، بالدرجة الأولى، وتهميش الجماعات الدينية، والعُرقية، والانقلابات العسكرية على الديمقراطية.. وذهبت روسيا إلى تأسيس ما يُعرف بمنظمة معاهدة الأمن الجماعي من دول سوفييتية سابقة، كتحالُف عسكري، وكان في البداية تسع دول، ثم انسحبت منهُ أوزباكستان وأذربيجان وجورجيا.

فقد  بقيت ضمن هذا التحالُف ثلاث دول من آسيا الوسطى، تعود بأصولِ شعوبها إلى الجذور التركية، وهي كازاخستان، قيرغيزستان، طاجيكستان. وان تركيا لم تقف موقف المتفرج بعد الانهيار السوفييتي، فاتّجهت شرقا، واقتحمت الفضاء الروسي، نحو الدول ذات الأصول التركية، في آسيا الوسطى، واتّجهت غربا لِمساندةِ المسلمين في البلقان.. أي رسمَت سياستها على بُعدَين: القومي والديني.وما أن وصلَ (العثمانيون الجُدُد) مع مطلع هذا القرن برئاسة رجب طيب أردوغان للسُلطة، حتى ظهرت العنجهية العثمانية التاريخية والتغنِّي بتاريخ الأجداد والسعي لإعادة تلك الأمجاد..

وأما في الغرب، في البلقان، فإنّ روسيا وقفت إلى جانب الدول والشعوب المنتمية للكنيسة الأرثوذكسية، بينما وقفت تركيا إلى جانب الدول والشعوب المنتمية للإسلام.. وهذا تجلّى بشكلٍ واضحٍ لدى الحرب في البوسنة والهرسك بين آذار 1992 وتشرين ثاني 1995 .واندلعت الحرب حينما صوّت مُسلمي البوسنة والهرسك بأغلبية أكثر من 99% للاستقلال عن بلغراد، أسوة بباقي دول الاتحاد اليوغسلافي، الأمر الذي عارضَهُ بقوة صُرب البوسنة، فكانت الحرب والمجازر والفظاعات، رغم وجود قوة الحماية التابعة للأمم المتحدة، والتي انتهى عملها بعد اتفاق دايتون عام 1995..

وكان التوتر الروسي التركي أيضا خلال الحرب في إقليم كوسوفو، عامي 1998 و1999 ، ما بين المسلمين ذوي الأصول الألبانية حينما سعى هؤلاء للانفصال عن بلغراد مدعومين من ألبانيا.. ودارت حربا بينهم وبين الأرثوذكس الصُرب المدعومين من بلغراد وروسيا، وإلى جانبهم الكاثوليك المدعومين من كرواتيا، وتدخل الناتو وقام بقصفِ قوات بلغراد وقصفِ يوغسلافيا مدة 78 يوما حتى أُرغِمت القوات اليوغسلافية على الانسحاب من كوسوفو.. وانتهت الحرب بمعاهدة ” كومانوفو” وهذه مدينة في مقدونيا. وتمّ نشر قوات دولية لحفظ السلام.. ومن ثمّ تمّ الإعلان عن استقلال كوسوفو كجمهورية، في شباط 2008، الأمر الذي أغضبَ روسيا،وكان الرد باجتياح أوسيتيا الجنوبية في آب 2008.

فبوتين يرى في تركيا بمثابة بوابّة يُمكنهُ من خلالها الالتفاف على العقوبات الأوروبية، وهذا تجلّى من خلال مديحهِ القوي لتركيا ولرئيسها أردوغان في مناسبات عديدة آخرها في آستانة خلال حضور قمة “سيكا”، أو قمة التفاعُل وتدابير بناء الثقة في آسيا في 13/10/2022.. ومن خلال حثِّهِ لأردوغان على إقامة مركز كبير للغاز الروسي وتوزيعه على الدول الأخرى، وقام أردوغان حالا بقبول العرض الروسي، وأعطى الأوامر مباشرة لوزارة الطاقة بإنجاز هذا المشروع المشترك الروسي التركي، في أقصى شمال غرب تركيا قريبا من بلغاريا، فهو مُربِحٌ جدا لتركيا، ويُعزِّز أكثر من دورها السياسي. طبيعي جدا، أن يتجاوب أردوغان ويُنغِّم حينما تكون هناك مكاسب تخدُم بلاده، ولكنه لا يُجامِل بوتين إطلاقا حينما يتعلق أي أمر بمصالح تٌركيا، فيجب أن يكون هو الرابح.

مقالات ذات صلة