للمرة الرابعة خلال ستة اعوام يخسر حزب المحافظين الحاكم في بريطانيا رئيسه الذي يشغل منصب رئيس الوزراء ايضا. ورغم اصرارها على البقاء في الحكم، متحدية بذلك فشلها في اتخاذ الاجراءات المناسبة لاصلاح الوضع الاقتصادي، اضطرت ليز تراس رئيسة الوزراء لاعلان استقالتها، بعد 45 يوماً فقط من تسنمها هذا المنصب، لتكون اول شخصية تقضي اقصر مدة في هذا المنصب على مستوى تاريخ المملكة المتحدة،. كما انها اتخذت هذا القرار الصعب في اليوم التالي لتصريح لها قالت فيه (بانها مقاتلة) ولن تستقيل بسهولة وستخوض معركة الانتخابات العامة القادمة في 2024.
ومع اعتذار على الاخطاء التي ارتكبتها والفشل في الايفاء بوعودها الانتخابية وعلى ما يبدو كانت خيالية وليست واقعية. فالميزانية المصغرة التي اعلنتها لتجميد قيمة فواتير الطاقة مع تخفيض الضرائب بطريقة تاتشرية، قد نتج عنها خسارة 45 مليار جنية مع ارتفاع في قيمة فوائد الاقتراض 7.7% ومعها تم الغاء 1000 صفقة رهان عقاري، مع زعزعة المعاشات التقاعدية لتدفع البنك البريطاني الى شراء سندات حكومية بقيمة 65 مليار دولار لحمايتها، مع انهيار الجنية الاسترليني وزيادة نسبة التضخم العام 10%، مع نسبة ديون عالية للغاية وصلت الى 98% من الناتج المحلي الاجمالي البالغ 2.4 تريليون جنية استرليني. أما سياسياً فقد تسببت خطتها هذه في زيادة شعبية حزب العمال وتشرذم حزب المحافظين .
وحصرت تراس المشكلة ونتائجها الكارثية في ثلاث امور أولها تركة حكومة جونسون الاقتصادية، ثانيها الحرب الاوكرانية وقطع بوتين-روسيا الغاز عن أوروبا، وثالثها وزير ماليتها الذي اقالته، ثم عينت جيرمي هانت بدلا عنه والذي سارع الى طرح إستراتيجية اقتصادية جديدة ركيزتها التقشف. ومع ذلك اخذت استطلاعات الراي العام توضح هبوط شعبية تراس. وحتى وجدت نفسها امام ازمات خانقة اقتصادية وسياسية ونفسية سرعت من قرار تقديمها الاستقالة.حيث لم يثر سبب الاستقالة استغراب الجمهور والمراقبين، وانما ما اثار استغرابهم السرعة التي وصلت فيها تراس لهذه القرار، حيث ان اغلبهم كانوا يعتقدون ان استقالتها قد تأخذ مدة اطول، بسبب قوة الاصرار وعنف المواقف التي اتخذتها.
ولعل إعلانها أن حكومتها تدرس نقل السفارة البريطانية الى القدس المحتلة دليل على ذلك، خصوصاً بعدما عززته بتصريحها بإنها ليست فقط مع دعم، او من اكبر الداعمين لاسرائيل، ولكنها صهيونية من الطراز الاول. والامر الذي جعل منتقديها يتجاهلون هذه المبادرة الإستفزازية، والتي اعادت ذكريات قديمة بخصوص دور بريطانيا في كارثة إغتصاب الاراضي الفلسطينية. وقد يكون طلب تراس من الملك تشارلس الثالث في عدم المشاركة في مؤتمر البيئةCOP27 المزمع عقده في مصر الشهر القادم، على الرغم من ان الملك من المهتمين بهذا الموضوع ، دليل أخر لانه اثار الشكوك الدولية حول احتمالية تراجع بريطانيا عن الوعود التي قطعتها بهذا الشأن في عهد مواجهتها لأزمة اقتصادية عميقة.
فالسرعة التي تم فيها اختيار سوناك ربما تكون شعور الغالبية في حزب المحافظين بتأنيب الضمير، لانهم فضلوا عليه تراس التي ليس لها تجربة في الاقتصاد، علماً ان سوناك قال لتراس بصورة واضحة اثناء المناظرات التلفزيونية ان الخطط الاقتصادية التي تتحدث عنها لاصلاح الوضع البريطاني خيالية وغير قابلة للتطبيق. ولكن الواقعية والحاجة الى (منقذ اقتصادي) على اسس المصلحة العليا للدولة قالت كلمتها في النهاية، وتم تعيين ريشي سوناك كأول رئيس وزراء ملون لبريطانيا، وأغنى واصغر من تسلم هذا المنصب القيادي، وأول رئيس وزراء يكلف من قبل ملكً تشارلس الثالث لتشكيل الحكومة الجديدة. وعلى الرغم من الصورة الديمقراطية التي عكسها النظام السياسي البريطاني بإختيار رئيس الوزراء سوناك.
وبالتأكيد ان رؤية وخبرة سوناك الاقتصادية وحزمة الاصلاحات التي اعدها كانت الاساس في اختياره للمنصب، بحيث وبمجرد الاعلان عن فوزه استعاد مثلاً الجنية الاسترليني قوته في سوق العملات، وإعلان تمسكه ببرنامج 2019 لتحسين الصحة والتعليم والامن والبيئة والسيطرة على الهجرة طمأنَ الوضع العام. كما انه لم يخفِ على البريطانيين ان هناك قرارات صعبة في انتظارهم يجب ان يتحملوها، وقد يكون من بينها تخفيض نسبة خطة الدفاع من 3% الى 2%، كما ان التوقعات تشير الى أن ذلك قد يفضي الى تخفيض المساعدات المالية لإوكرانيا، وهذا قد يغضب الولايات المتحدة ومؤيدي ضرورة مواجهة روسيا، مع تخفيض المساعدات لباقي دول العالم خاصة في الشرق الأوسط وافريقيا.