للكاتب هاني الروسان
لا يمكن النظر الى هذا التصعيد الإسرائيلي في سوريا على انه حدث عابر وضمن ندوب الحرب المزمنة هناك، بل انه يعكس ديناميكيات أعمق ترتبط بوظيفة إسرائيل الإقليمية، والمخاوف المتنامية بشأن مستقبل هذا الدور في ظل تحولات السياسة الأميركية وتبدل خرائط النفوذ. فالغارات التي طالت مواقع عسكرية وسيادية حساسة قرب دمشق، جاءت محملة برسائل متعددة ضمن سياق يتجاوز إطار “الردع التقليدي” إلى محاولة تثبيت معادلات جديدة تحافظ من خلالها تل أبيب على موقعها كـ”أداة سيطرة” رئيسية للغرب وسط بيئة معقدة تعاد فيها هيكلة الأدوار والأحلاف.
فبقدر ما حرصت إسرائيل خلال السنوات الماضية على منع ترسيخ قواعد اشتباك تتحدى نفوذها على الجبهة السورية، فإنها تجد نفسها اليوم أمام معادلة أكثر تعقيدًا حيث واشنطن، التي تعيد ترتيب أولوياتها في المنطقة، باتت تميل وفقا لتصريحات ترامب الكثيرة إلى الاستثمار في قوى إقليمية “قابلة للضبط” لحماية مصالحها ومشاريعها طويلة الأمد كالدور التركي الذي تسعى الإدارة الأميركية إلى توظيفه في إعادة إنتاج “الإسلام السني المعتدل” كعنصر استقرار سياسي واجتماعي، ووسيلة لتوسيع الاتفاقات الإبراهيمية في المنطقة، بما قد يهدد او يتجاوز مركزية الدور الإسرائيلي التقليدي على هذا الصعيد.
وهذا التحول المحتمل يثير قلق تل أبيب، التي يشكل احتكارها للدور “الوظيفي” في حماية النفوذ الامريكي خاصة والغربي عامة شرطًا لضمان أمنها الاستراتيجي وتفوقها السياسي. فانتقال ثقل التكليف الأميركي إلى طرف آخر، ولو جزئيًا، يعني بالضرورة إعادة تعريف الأدوات والنفوذ، وإدخال فاعل جديد إلى معادلة احتاجت إسرائيل عقودًا لترسيخ نفسها فيه كعنضر أساسي بل ووحيد. والقضية هنا لا تتعلق فقط بامكانية تراجع الدور الإسرائيلي إلى مرتبة “شريك ضمني” بقدر ما ترتبط بتفكيك الأساس الذي قامت عليه استراتيجيتها الإقليمية: أن تبقى القوة الأكثر قدرة على ضبط التفلتات، وإعادة هندسة الخرائط بما يخدم أولويات حلفائها الغربيين
وفي هذا السياق، يمكن فهم الضربات الأخيرة بوصفها محاولة استباقية لتثبيت الخطوط الحمراء أمام أي إعادة هندسة محتملة لدورها الوظيفي. فتل أبيب بقدر ما ترى في النفوذ الإيراني “الثابت” تهديدًا بنيويًا لدورها الوظيفي الاقليمي، فانها باتت بنفس القدر تخشى من تحول تركيا — بدعم أميركي — إلى قوة مقبولة سياسيًا ودينيًا وأمنيًا، وقادرة على ملء الفراغ الذي خلفه انحسار الأدوار التقليدية الأخرى، كما يرى ذلك الكاتب الإسرائيلي بن كاسبيت الذي قال سابقا في “معاريف” أن “تل أبيب لا ترغب برؤية طرف آخر يتوسط بينها وبين واشنطن في ضبط الإقليم، حتى وإن كان ذلك الطرف حليفًا لأميركا”.
ويزداد هذا القلق مع تصاعد حضور اليمين الإسرائيلي في دوائر القرار، حيث يرى الأخير أن ضمان أمن الدولة العبرية لا يتحقق بالردع فحسب، بل بتفكيك البيئات المحيطة وتفريغها من أي مقومات مركزية قد تُعيد إنتاج قوى قادرة على التمثيل السياسي والعسكري.و بهذا المعنى، فإن استغلال لحظة إعادة ترتيب الأدوار ليس فقط وسيلة لحماية الدور الوظيفي، وإنما هي فرصة لتفعيل رؤية قديمة– جديدة ترى في تفتيت سوريا ومحيطها ضرورة استراتيجية كما يؤكد ذلك عاموس يادلين، الرئيس الأسبق للاستخبارات العسكرية، في مقابلة مع القناة 12 الإسرائيلية حيث يرى ان بقاء سورية موحدة تعني نفوذًا تيرانيا وتركيا معًا.
وعليه فان هذا التصعيد الاسرائيلي بذريعة حماية الاقليات الحليفة كما تزعم لن يكون الا مجرّد مظهر لحسابات أعمق: الخوف من فقدان احتكار الدور الوظيفي كوكيل للمصالح الامريكية والغربية الذي يشكّل أساسًا لعلاقتها العضوية بهذا الغرب، واستغلال لحظة إعادة توزيع الأدوار لتكريس مشروع تفكيك المنطقة وضمان عدم ظهور منافسين جدد لها. وبينما يعيد ترامب التفكير باعادة ضبط وهيكلة خرائطه باعتماد شركاء جدد ومتعددي الأدوار، تصر تل أبيب على الاحتفاظ بخيوط اللعبة عبر القوة والنفوذ، حتى وإن كان ذلك على حساب استقرار الإقليم.