تدور فرنسا في فلك المنظومة الغربية، وهي تمثل جزء أساسي منها، إلا أنها أكثر الدول تمرداً على هذه المنظومة. فقد شهدت العقود الستة الأخيرة كثيراً من المشاغبات الفرنسية، بل كثيراً من المواقف الجريئة، التي خرجت بها باريس عن الإجماع الغربي، وخالفت بها صراحةً واشنطن.ولم تحتاج باريس كثيراً من السنين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لتدرك أنها لا تستطيع التماهي مع المنظومة الغربية التي شكلها واقع ما بعد الحرب العالمية، فهي لا تقوم على التشاركية، بقدر ما تقوم على تكريس الهيمنة الأميركية. ويعز على الفرنسيين أن يشاهدوا أنفسهم يتحولون من إمبراطورية ممتدة في كل قارات الدنيا، إلى مجرد دولة خاضعة لواشنطن.
ووجد الفرنسيون أن انخراطهم بشكل فاعل في المنظومة الغربية وحلف الناتو – اللذان تتسيدهما أميركا كلياً – يحد إلى حد كبير من سيادة الدولة الفرنسية، ونفوذها، واستقلالية قرارها، ويصادر بالتالي حقها في رسم سياساتها التي تعبر عن قناعاتها الخاصة. ولذا لم يستكن الفرنسيين أبداً حيال هذه المعادلة، بل عمدوا خلال العقود الأخيرة وبين الحين والآخر إلى المناورة، والمراوغة، والتململ، والتمرد، بل والخروج أحياناً عن الصف الغربي.كان شارل ديغول هو المشاكس الأول أو الثائر الأول في ذلك المضمار، فقد ثار عام ١٩٦٦ على المنظومة الغربية، بإعلانه انسحاب بلاده من القيادة العسكرية لحلف الناتو.
وواصل ديغول قراراته الثورية الجريئة في عام ١٩٦٧، وذلك بفرضه حظراً على تصدير السلاح الفرنسي لإسرائيل. وقد بادر في أواخر الستينيات، لتطوير علاقته بعبد الناصر، فتحولت من خصومة وعداوة إلى تفاهم وصداقة. وقام خلفه بومبيدو بتزويد ليبيا بطائرات الميراج فائقة التطور.و حتى في عهد ديستان، ومتيران، وشيراك، استمرت باريس تناور الغرب وتشاغبه، من خلال بعض السياسات والمواقف. ففي النصف الثاني من السبعينيات، اضطلعت فرنسا ببناء البرنامج النووي العراقي. كما زودت الأرجنتين بصواريخ إكزوسيت، التي سحقت البحرية البريطانية في فوكلند. ولم تبخل على الجيش العراقي بأفضل أنواع الأسلحة. وعارضت بشدة المشاركة في التحالف الأميركي لغزو العراق عام ٢٠٠٣.
لكن في السنوات الأخيرة تبدل الحال كلياً، فقد تراجعت النزعة الديغولية الثائرة عند فرنسا، مما أضعف من هيبتها، واستقلالية قرارها، وقوة حضورها في السياسة الدولية.وان المنحنى آخذ في الهبوط منذ عهد ساركوزي وعودته بفرنسا للقيادة العسكرية للناتو عام ٢٠٠٩. فباريس حالياً مُدجنة وضعيفة أمام الناتو وواشنطن أكثر من أي وقت مضى. بحيث يتلقى الفرنسيين الصفعات المتتالية من الغرب، ولا يملكون حفظ هيبتهم وكبريائهم. وآخر الصفعات التي تلقاها الفرنسيين كانت من أميركا، التي حرضت أستراليا على الانسحاب من صفقة الغواصات الفرنسية. لتتعاقد كانبيرا على شراء غواصات أميركية، بدلاً من تلك التي كان مزمعاً شراؤها من فرنسا. وفي أوج غضب باريس من غدر الأستراليين بها، أعلنت واشنطن عن قيام حلف عسكري أنغلوساكسوني يضم أميركا، وبريطانيا، وأستراليا.
فقد إعتبر الساسة الفرنسيين حادثة الغواصات بأنها إهانة في غاية البشاعة. ويشعر الفرنسيون أيضاً بالتجاهل، والتهميش، وعدم التقدير، من قبل أميركا وبعض القوى الغربية الأخرى، على أساس أن باريس لن تكون مفيدة وليس لديها ما تقدمه، في صدام أميركا المرتقب مع الصين. كما ويشعر الفرنسيين بالخذلان من الموقف الغربي السلبي، تجاه تآكل نفوذهم في وسط وغرب أفريقيا لصالح النفوذ الروسي. وإذا ما ظلت باريس على نهجها الحالي، فهي حتماً خاسرة. ستخسر مزيداً من النفوذ، وسينقص وزنها أكثر وأكثر في موازين القوى. فلن تجدي وداعة باريس ولن تنفعها عقلانيتها الزائدة.
ومن أجل استدراك الموقف وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ينبغي على الساسة الفرنسيين استحضار الديغولية، كمنهج، وطريقة ثورية، لإدارة السياسة الدولية والعلاقات الخارجية.فالشارع الفرنسي ساخط من تقهقر مكانة بلاده في الخارج. وان نسبة كبيرة من تعداد الشعب تطالب بالانسحاب الفوري من الناتو. وأيضاً على مستوى قادة الأحزاب وكبار الساسة والبرلمانيين، ثمة مطالبات بضرورة مغادرة الناتو والخروج من عباءة واشنطن لحفظ ماء الوجه. فكم يتوق الفرنسيين لمجيء ديغول جديد. وسينتظرونه عله يأتي ذلك المُخَلِص.