هل يتغير العالم بعد “قمة بريكس” ؟

 العالم فيما بعد قمة “بريكس” التي تعقد الثلاثاء، لن يظل كما هو بعدها. هذا أقل ما تأمله الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، ذلك أن هذه الدول وحدها تشكل نحو نصف سكان الكرة الأرضية، ونحو 30 % من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وأكثر من 16 % من حجم التجارة العالمية، وتراهن بذلك على خلق عالم متعدد الأقطاب، وهو مصطلح بات يعني كسر “الاحادية” التي يمثلها الغرب، وتحديدا الولايات المتحدة.

ولن تكون قمة “بريكس” الـ15 في جوهانسبورغ عادية وفق كل المعايير، ذلك انها الاولى منذ وباء كورونا، وجدول أعمالها حافل بالقضايا الكبرى في ظل التوتر العالمي الناشئ عن الحرب الاوكرانية، وتصاعد التوترات الكامنة في شرق آسيا، وتأهب جبهات القتال بالوكالة في مناطق الساحل الافريقي بعد انقلاب النيجر.

لكن الأهم كما يقول مراقبون إن القمة التي دعيَ إليها 67 زعيما عالميا، ستتخذ قرارات مصيرية تتعلق ببدء العمل من اجل اصدار عملة مالية مشتركة، بما يعني السعي الى اقصاء الدولار الامريكي عن عرش العملات العالمية، بالإضافة الى تعزيز استخدام العملات المحلية للدول الخمسة في العمليات التجارية فيما بينها، وإنشاء نظام آليات للمدفوعات المشتركة، وذلك الى جانب دراسة طلبات العضوية من جانب دول مثل إيران والسعودية وتركيا والجزائر ومصر والأرجنتين.

ويقول سياسيون ومراقبون إن تقدم مجموعة “بريكس” نحو اهدافها هذه تعني بالتأكيد تبدلات هائلة على صعيد توازن القوى، وتؤشر ايضا الى ان الولايات المتحدة التي تسيدت شبه وحيدة، على العالم منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، تفقد قبضتها السياسية والاقتصادية تدريجيا، وربما العسكرية أيضا.

وبينما بلغت ميزانية الدفاع العسكري للولايات المتحدة رقما قياسيا بلغ 858 مليار دولار، فإن الإنفاق العسكري لدول “بريكس” يبلغ حاليا 400 مليار دولار، لكن لديها أيضا 11 مليون جندي، بالاضافة الى نحو 6500 قنبلة نووية (بحوزة الصين وروسيا والهند).

وبرغم صورتها كتكل يتحدى الهيمنة الغربية، فإن هيبة “بريكس” مع ذلك منيت بانتكاسة بعدما فشلت في ضمان حضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصيا (سيشارك من خلال تقنية الفيديو) وذلك بعد تعرض جنوب أفريقيا لضغوطات غربية حول فكرة زيارته باعتبار أن بوتين صادرة بحقه مذكرة اعتقال من جانب المحكمة الجنائية الدولية فيما يتعلق بدوره في حرب أوكرانيا. لكن الوزير سيرغي لافروف سيمثل موسكو في القمة، بينما سيحضر الرئيس الصيني شي جي بينغ بالاضافة الى زعماء البرازيل والهند وجنوب افريقيا. وكان من اللافت أن حكومة جوهانسبورغ تعمدت الإعلان مؤخرا عن أنها لم توجه دعوة للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لحضور القمة رغم ان عشرات من زعماء الدول وحكوماتها سيشاركون.

وحتى ان كان بشكل رمزي، فان “بريكس” تعتبر من أبرز المؤشرات على  صعود قوى بديلة عن الثنائي الاوروبي-الاميركي الذي هيمن على الشؤون الدولية خلال القرون الثلاثة الماضية، واتخذ منحى أكثر حدة منذ شبه الاستفراد الأميركي بالتحكم في الصراعات الجيوسياسية سياسيا واقتصاديا، بعد انتهاء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي في العام 1991.

ومن خلال حصتها من الاقتصاد العالمي، فإن “بريكس” تتفوق على حصة “مجموعة ال7″، كما أن دول “بريكس” حاليا تمثل 40% من مساحة العالم وهي نسبة تتزايد بالتأكيد في حال انضمام دول أخرى إليها، وهي لا تخفي منذ انطلاقتها على مستوى القمة في العام 2009، مسعاها للتحول إلى قوة اقتصادية عالمية، وكسر الأحادية القطبية التي يمثلها الغرب بزعامة الولايات المتحدة، وإنشاء نظام عالمي متعدد الأقطاب.

ومن المعروف أن “بريكس” ظلت منذ انضمام جنوب أفريقيا المتأخر، شبه مغلقة أمام الأعضاء الجدد، وها هي تحاول الآن فتح أبواب العضوية الآن. وسيكون على الأعضاء الجدد الالتزام بأهداف المجموعة التي من بينها مكافحة الفقر والتنمية المستدامة وتعزيز الاندماج الاقتصادي والاجتماعي وتقوية الأمن والسلام لضمان النمو الاقتصادي والاستقرار السياسي، وإصلاح المؤسسات المالية الدولية ليكون للدول الناشئة صوت اكبر، وتعزيز الأمن الغذائي.

ويقول مراقبون إن من بين الخطوات الاكثر دلالة على النزعة الاستقلالية وكسر الاحادية الامريكية، قرار الصين في العام 2013 إطلاق مبادرة “الحزام والطريق” بعد شهور قليلة على قمة “بريكس” في مدينة ديربان الجنوب افريقية في العام 2013. كما يمكن ملاحظة هذه النزعة بوضوح في قرار “بريكس” افتتاح “بنك التنمية الجديد” خلال قمة المجموعة في مدينة أوفا الروسية في العام 2015، وهو بنك، مقره في مدينة شنغهاي الصينية، حيث تراهن “بريكس” أن يكون بمثابة بديل عن مؤسسات البنك الدولي الذي يعتبر الذراع المالي للهيمنة الغربية عالميا، ويقدر رأسماله بحوالى 100 مليار دولار.

ووفقا لأرقام مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)، فقد لعب “الاستثمار الأجنبي دوراً مهما في نمو اقتصادات دول بريكس منذ العام 2001، حيث تضاعفت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر السنوية الى الكتلة بأكثر من أربعة أضعاف من العام 2001 إلى العام 2021 (من 84 مليار دولار إلى 355 مليارا) وساهمت بشكل كبير في تكوين رأس المال الثابت الإجمالي”.

وكان عقد قمة “بريكس” في سان بطرسبورغ الروسية في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، بالشراكة مع “منظمة شنغهاي للتعاون” التي تعتبر بمثابة تكتل آخر بديل عن الهيمنة الغربية، ويتشكل منذ العام 2001، مؤشرا مهما آخر على التحولات الجارية عالميا، وهي منظمة انضمت اليها ايران رسميا في تموز/يوليو الماضي. وبحسب بعض المحللين، فإن “بريكس” هي بمثابة “الذراع الاقتصادي-المالي” لـ”منظمة شانغهاي”، وهي ظاهرة ما تزال قيد التطوير.

وكثرت خلال الشهور الماضية تقديرات الخبراء والمراقبين بأن الحرب الاوكرانية التي انخرطت فيها روسيا، سرعت من تحرك موسكو وبكين، والدول الاخرى في “بريكس” باتجاه ضمان الاستقلالية المالية بعيدا عن الدولار الامريكي، خصوصا بعدما شاهد العالم سرعة العقوبات وحدتها والتي فرضت على العلاقات والمصالح التجارية والاقتصادية وممتلكات الروس في أنحاء العالم، وكانت بمثابة جرس إنذار دفع زعماء دول المجموعة إلى البحث عن خيارات مالية جديدة، للتخلص من “استبدادية” الدولار الذي استخدم مرات كثيرة لمحاصرة واضعاف دول وشعوب خلال العقود القليلة الماضية، كما في العراق وإيران وسوريا ولبنان وغيرها.

ويمكن القول إن التكتلات والأحلاف التي يشهدها العالم، برغم أنها تعكس شكلا من التلاقي في المصالح والأهداف والتقارب بين دول التكتل نفسه، إلا أنها تعكس في الوقت نفسه، صراعات الدول الكبرى والانتقال من الحروب العسكرية الطاحنة، إلى الصراع على المصالح الاقتصادية، لضمان الاستمرارية والبقاء الازدهار، ولو على حساب الدول أو التكتلات الأخرى، وهي أهداف تستدعي بشكل حتمي أحيانا، اللجوء الى جبهات القتال والخنادق.

واذا كانت “بريكس” تحمل مؤشرا على قيام تكتلات بديلة، فإن التاريخ يقول ايضا ان العالم شهد قيام وسقوط تكتلات أخرى، وعلى سبيل المثال حلف وارسو (تأسس في العام 1955) لمواجهة حلف “الناتو” الذي يمثل أوروبا الغربية والولايات المتحدة. كما شهد العالم سقوط ما سمي “حلف سياتو” لدول جنوب شرق آسيا الذي تأسس العام 1954، وذلك بدعم من واشنطن لمواجهة نفوذ موسكو.

مقالات ذات صلة