بعد السابع من أكتوبر، يوم “طوفان الأقصى”وصل مباشرة إلى الكيان المحتل ضباط أمريكيون ليقدموا لنظرائهم الإسرائليين “المشورة العسكرية” لما يملكون من تجارب سابقة في قتال “المجموعات غير النظامية” وتحديداً في فيتنام، أفغانستان والصومال. وبالإضافة إلى تجاربهم في “قتال المدن” في الفلوجة والموصل ناصحين العدو بعدم التهور في الهجوم سريعاً على “قطاع غزة” خشية التورط داخل بلداته ومدنه في “حرب عصابات” دامية وطويلة الأمد يمكن أن تُسفرعن آلاف الضحايا من دون الوصول إلى هدفهم الإستراتيجي وهو القضاء على “حماس” وباقي الفصائل (سرايا القدس، كتائب الأقصى، كتائب المجاهدين….).
وقد شدد الخبراء الأمريكيون على قادة العدو ضرورة تطبيق التكتيك الذي اعتمدوه خلال معركة الموصل عام 2016, كي لا يقع جيشهم في الأخطاء التي حصلت مع الأمريكيين في معركة الفلوجة عام 2004، معتمدين على العمليات الخاصة ضد الفصائل وقادتها إن في الداخل او الخارج وبأقل خسائر ممكنة من المدنيين، لكن العدو صمّ آذانه غير آبه بالنصائح، فلم يُقدّر الموقف لاتخاذ القرار المناسب مطلقاً العنان لطائراته ومدافعه كمرحلة أولى من الهجوم على القطاع، حاصداً عشرات الآلاف من القتلى والجرحى المدنيين، ومن ثم إنتقل إلى المرحلة الثانية زاجاً بقواته في قتالٍ مرير، يُسمى “القتال في الأماكن المأهولة” حيث هاجم جيش الاحتلال غزة على جبهة طولها 51 كم وعرضها من 6 الى 12 كم .
فقد استوعبت “كتائب القسام” تكتيكات جيش الإحتلال مستطلعة في كل مرة نقاط القوة والضعف لديه مستخلصة منهم الدروس والعبر، فقَدّرت الموقف التكتي وأخذت قرارها الإستراتيجي ونفذته فكان “سلاح الأنفاق”. واستكمالاً في التحضير لعملية “طوفان الأقصى” أجرت “كتائب القسام” مقارنة بين قدرات العدو وإمكاناتها المتاحة، فأعدت مقاتليها لليوم المنشود من حيث التدريب، التجهيز والعقيدة. وشكّلتهم ضمن كتائب (ليس من الضروري أن يكون عديدها مماثل للكتيبة النظامية) والكتيبة إلى مجموعات قتال صغيرة، يتراوح عديد كل مجموعة من 3 إلى 10 مقاومين حدا أقصى وذلك وفقاً لكل مهمة. ووضعت مع باقي الفصائل في غزة خطة عملياتها بناءً على تكتيك: “قتالي ثلاثي الأبعاد”. تدمج فيه هذه المجموعات بين القتال داخل المباني وخارجها وفوق سطح الأرض وباطنها، لتأتيهم من كافة الجهات ومن حيث لا يشعرون، عبر تنفيذ الكمائن والإغارات، متخذين من أسلوب المناوشات المحدودة.
ولجأت حركة حماس الى عدم خوض مواجهة مباشرة مع قوات الاحتلال بل العمل على استدراجه كأفضل تكتيك لمقاومته كما حصل في الكمين الثلاثي في الشجاعية، حيث يهدف هذا النوع من القتال إلى إرهاق جيش الإحتلال واستنزافه لإجباره على الإنسحاب، معتمدين في هذا كله على دعم السكان وولائهم. وللسير بهذا التكتيك جزأت المقاومة القطاع إلى عدة مربعات كبيرة منحتها أسماء رمزيّة ضمنها مربعات أصغر، تم إسقاط هذه المربعات نسبة لحجم ومساحة المدن والمخيمات والبلدات ووفقا للاهمية الإستراتيجية لكل منطقة، وقد جرى توزيعها بعد دراسة محاور تقدم العدو و”النقاط الحاكمة”.
فقد إعتمدت المقاومة هذا التكتيك مستفيدة من: الإستخدام الآمن للأنفاق (حوالي 500 كم) التي أنشأتها تحت الأرض تسمح بحرية مناورة أوسع وأشمل فهي قادرة على التنسيق بين القتال تحت الارض وفوقها مستفيدة من أكوام الركام والمنازل الفارغة، بعد أن تحولوا إلى موانع ومراكز رمي للمقاومين بقدر ما أعاقت العدو في السيطرة.الى جنب حرية المناورة مفتوحة للمجموعات الصغيرة، فالمبادرة القتاليّة بيدها ترصد، تستطلع، تنفذ ثم تُفيد لاسلكيا.استخدام مبدأ “أضرب واهرب”، مع الإبقاء على السُبل مفتوحة بين المجموعات ضمن كافة المربعات حتى لو توغل العدو ضمنها فذلك لا يعني سقوط المجموعة، بل تواصل نشاطها من مربعات مجاورة.
والآن وبعد 90 يوماً من حربه على غزة يعود العدو للنصيحة الإستراتيجية الأمريكية ويعلن عن التحضير للمرحلة الثالثة، فيما وصفها مراقبون “هروب من الهزيمة”. فهل بدأ مرحلته هذه من الضاحية الجنوبية بإغتيال صالح العاروري القيادي في حركة حماس؟ أم هو الهروب الدائري إلى لبنان من دون إشهار لهزيمته في غزة على يد مقاومين جعلوا من باطن الأرض سلاحهم الإستراتيجي.