للكاتب نبيل أحمد الدرويش
منذ منتصف مارس المنصرم، شنت الإدارة الأمريكية، تحت قيادة الرئيس دونالد ترامب، حملة عسكرية مكثفة ضد اليمن، متبنيةً ذريعةً مشابهة لتلك التي استخدمها سلفه جو بايدن، وهي “حماية الملاحة البحرية الدولية في البحر الأحمر” من ما أسمته “تهديدات الحوثيين”. غير أن الوقائع تكشف أن الدوافع الحقيقية لهذا العدوان تتجاوز هذه الذريعة الهشة، لتتضمن دعم الكيان الإسرائيلي وتمكينه من مواصلة حرب الإبادة الجماعية التي يمارسها في قطاع غزة منذ أكثر من ستة عشر شهرًا، فضلاً عن محاولة كبح العمليات العسكرية اليمنية الداعمة للشعب الفلسطيني المكلوم في القطاع والمساندة لمقاومته المسلحة.
فالفشل في تسويق الذريعة وتفنيد الرواية الأمريكية بات واضحا .ففي الوقت الذي أخفقت فيه الرواية الأمريكية في تزييف وعي الرأي العام العالمي، وتمرير أطروحتها التي تقول أن ضرباتها تستهدف “حماية السفن التجارية” من هجمات “الحوثيين” في البحر الأحمر حسب وصفها، تكشف تقارير استخباراتية غربية وأمريكية أن هذه الهجمات لم تستهدف سفنًا أخرى غير مملوكة للكيان الإسرائيلي أو مرتبطة به، وتدلل على ذلك بمرور السفن الأخرى عبر مناطق الحظر المعلنة دون استهداف أو اعتراض. الأمر الذي يدحض مزاعم الإدارة الأمريكية، ويؤكد مصداقية البيانات الصادرة عن القوات المسلحة اليمنية وتأكيدها بشكل متكرر على أن اهداف العمليات اليمنية تنحصر في الضغط على الكيان الاسرائيلي لوقف مجازره وجرائمه التي يرتكبها على مدار الساعة في غزة.
بذلك، تكشف التحليلات الموضوعية للسياسة الأمريكية أن ذريعة “حماية الملاحة الدولية” ليست سوى غطاء لأهداف استراتيجية أوسع تتمثل في: ضمان استمرار إبادة أهل غزة دون ضغوط بحرية، لاسيما وأن الكيان الإسرائيلي يعتمد بشكل كبير على الملاحة عبر البحر الأحمر، ولأن تهديد اليمن لهذه الملاحة يزيد من كلفة الحرب ويقلل من الدعم الصهيوني العالمي لاستمرارها، فإن الغارات الأمريكية تسعى لإزالة اي قيود لوجستية أو اقتصادية لاستمرار هذه الحرب، كما تسعى إلى منع الاستهداف العسكري المباشر للكيان الإسرائيلي من قبل القوات المسلحة اليمنية وتقويض وصول صواريخها وطيرانها المسير إلى قلب الكيان.
ويظل السؤال المطروح هنا.. هل تمكن العدوان الأمريكي من ردع العمليات العسكرية اليمنية سواء في مناطق حظر الملاحة البحرية الإسرائيلية، أو تلك التي تستهدف الأراضي المحتلة بشكل مباشر؟ وهنا لم تنحصر مظاهر فشل العدوان الأمريكي في الإخفاق الاستخباراتي غير المسبوق، والتناقضات الواضحة في سياسات وأولويات واشنطن من عملياتها العدائية ضد اليمن، لاسيما تلك التي أبرزت الرسائل النصية المسربة جزءً منها. فمن حيث الكلفة المادية، استنزفت هذه العمليات القوات الأمريكية بشكل متصاعد وكبدتها أثمان باهضة في الموارد والجاهزية العسكرية. حيث تمكنت العمليات اليمنية المضادة من إلحاق خسائر بشرية ومادية في هذه القوات، وتم توثيق عدة حوادث لهجمات يمنية أصابت سفنًا أو قواعد أمريكية.
وفي جانب الخسائر البشرية، تم الإعلان عن مقتل جنود أمريكيين خلال العمليات اليمنية في البحر الأحمر أو عند اعتراض المسيرات اليمنية، وقد أثار ذلك جدلاً داخليًا في الداخل الأمريكي بشأن فاعلية وجدوى هذه العمليات. ولأن معظم الضربات الأمريكية لم تكن دقيقة، فقد اصابت أسواقًا شعبية، وأحياءً سكنية، وأحيانا مقابر، ما أسفر عن استشهاد وإصابة مئات المدنيين. وفضلًا عن ذلك، أثار تعمد العدوان للإضرار بالعديد من المنشآت الحيوية المدنية، موجات من الغضب المحلي، وزادت من تماسك الجبهة الداخلية وإيمانها بالشرعية الدينية والأخلاقية والإنسانية للموقف اليمني المساند لغزة والمناصر للمظلومية الفلسطينية، وتأكيدها على حق اليمن في الدفاع عن النفس والرد على أي عدوان يتعرض له.
و يضع العدوان الأمريكي على اليمن العالم أمام مفارقة تاريخية، حيث تُكشف هشاشة الذرائع الغربية في تبرير عدوانها، بينما تتعمق أزمة المشروعية الأخلاقية والسياسية للسياسات الأمريكية في المنطقة. والسؤال الجوهري الآن هو: هل يمثل الفشل الأمريكي في اليمن بداية انحسار النفوذ الغربي في المنطقة، أم أن واشنطن ستستمر في تبني سياسات عدوانية تزيد من تأجيج الصراع وتعمق أزماتها الاستراتيجية؟.. وفي كل الأحوال، يبدو أن الموقف اليمني المساند لغزة قد نجح، حتى الآن، في تحويل المعادلة الاستراتيجية لصالح اليمن. ولعلّ هذا يشكل سابقةً تاريخيةً في مواجهة الهيمنة الغربية.