السردية التي يروّجها الغرب في المواجهة الشاملة مع روسيا مبنية على ركيزة واحدة أن رأس الأفعى هو الرئيس الروسي وبالتالي يجب أن يرحل كما تبيّن في “زلّة لسان” للرئيس بايدن. والهدف هو الإطاحة بالرئيس بوتين وبالتالي كل شيء سينهار في روسيا. وان الجهل والغباء يدفعان هذا النوع من التفكير لأنه يتجاهل حقائق عديدة لا بد من عرضها لفهم أن ما يحصل في روسيا من التفاف جماعي حول الرئيس ومؤسسات الدولة الروسية وأن النخب الحاكمة قد تكون أكثر تصلّبا من الرئيس الروسي. فهي على درجة عالية من الكفاءة التقنية والدهاء السياسي والبعد الاستراتيجي لجميع القرارات التي تتخذها ما ينفي الغرض من الإطاحة بالرئيس الروسي.
فالحقيقة الأولى: هي أن الرئيس الروسي رجل غير اعتيادي. وليس الهدف تشخيصه وسرد ميزاته بل الاكتفاء بأنه يقرّا موازين القوّة بشكل مميّز ويخطّط على المدى المتوسط والطويل كلاعب شطرنج من الطراز الأول ويستعمل قوّة خصومه ضدّهم كلاعب جودو ماهر. فهو يعمل على عادة الاعتبار إلى روسيا ودورها في العالم كما هو مسكون برفع مستوى الرفاهية لجميع الروس. فالدور العالمي ليس على حساب رفاهية الروسي العادي والرفاهية المواطن هي سند لإعادة مكانة روسيا في العالم. وهذا الدور العالمي هو لتحقيق التوازن في العالم ولتطوير العلاقات الدولية على قاعدة المنافع المشتركة بين جميع الدول وليس على قاعدة اللعبة الصفرية التي تتميّز بها العلاقات الدولية في الغرب.
والغرب أناني في مصالحه بينما يطرح الرئيس الروسي ومعه شريكه الصيني المشاركة الكونية لصالح الجميع. وهذا التمازج بين الرفاهية الروسية والدور العالمي يشكل نوعا جديدا من القوّة الناعمة مختلفة عن التي يفرضها الغرب على العالم والتي تهدف إلى تذويب الهويات الوطنية وجعل الناس مستهلكين (بفتح اللام وكسرها!) وغير مواطنين لا حقّ لهم في المسائلة والمحاسبة. ولذلك هناك من المحلّلين الروس كاندري مرتيانوف يعتبرون الرئيس الروسي في مكانة بطرس الأكبر وكاترينا العظمى وستالين. فهو الرابع في سلسلة الشخصيات التاريخية لروسيا وفقا لتلك التقديرات.
والحقيقة الثانية: هي أن هذه الرؤية الروسية ليست محصورة بشخص الرئيس الروسي بل مشتركة لمروحة واسعة من النخب الحاكمة التي ربما قد تكون أكثر تصلّبا من الرئيس الروسي في تحقيق المشروع الداخلي والخارجي. و هذا يعني أن الإطاحة بشخص الرئيس قد لا يفيد أهداف الغرب بل ربما قد تأتي بشخصية أكثر مواجهة وأقل صبرا من الرئيس الروسي الحالي. فهناك من راهن في الغرب على أن القيادة الروسية منقسمة بين متشدّدين قوميين روس وليبراليين أطلسيين ساعين إلى الالتحاق بالغرب والعولمة النيوليبرالية. ومن الاطلسيين رئيس الوزراء الحالي اندري مدفيديف ومعه حاكمة المصرف المركزي الفيرا نابيولينا التي تدرّبت في الصندوق الدولي. لكن هذه التقديرات لم تكن في محلّها حيث الوطنية الروسية جعلت رئيس الوزراء مدفيديف من الصقور في مواجهة الأطلسي.
كما أن حاكمة المصرف المركزي اتخذت الإجراءات اللازمة لمنع انهيار الروبل عندما أطلق الغرب قنبلته النووية الاقتصادية والمالية على روسيا عبر نزعها عن منظومة السويفت والحظر الاقتصادي على المنتجات الروسية والاستيلاء على الاحتياط النقدي الخارجي. وبالتالي ساهمت إلى حد كبير في إفشال المخطط الغربي الأطلسي لقلب النظام القائم في روسيا.وهنا لا بد من الإشارة إلى الالتفاف الشبابي في روسيا حول القيادة الروسية ما يدحض ادعاءات الغرب حول المناهضة للنظام القائم من قبل الشباب. ولكن الأهم من كل ذلك هو تأييد الكنيسة الارثودوكسية للنظام القائم.
والحقيقة الثالثة: هي أن معظم الروس لا ينسون مآسي حقبة التسعينات التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي وكيف تمّ تدمير الاقتصاد الروسي وإذلال الروس على يد طغمة فاسدة تحترف اللصوصية والاجرام وتابعة للقرار الأميركي. و هذه حقيقة متجذّرة في الوعي الروسي وبالتالي كانت داعمة للإجراءات التي فرضها الرئيس بوتين في تنقية المناخ الداخلي وتحصين المصالح الوطنية ومنع التمدّد الخارجي في الداخل الروسي. فالمواطن الروسي يعلم أنه مستهدف من قبل الغرب خاصة وأن العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا كشفت يقين الشعور الغربي المعادي جذريا للشعب الروسي ولروسيا.
وهذا ما يظهر في معظم التحليلات والتصريحات المكتوبة والمسموعة والمرئية من قبل النخب الحاكمة في الغرب تجاه روسيا. والذكاء الروسي هو أنه لم يمنع وصول تلك المواقف إلى المواطن الروسي فكان ذلك أداة فاعلة لتعبئة الروس في المواجهة مع الأطلسي والغرب. هذا نموذج عن جوهر رياضة الجودو حيث استعمل الروسي قوّة الأطلسي ضدّه! وهنا لا يمكن إغفال دور القرارات الحمقاء، وهي كثيرة وقد لا تحصى، التي ارتكبتها النخب الحاكمة في الغرب من مواقف إذلال للكرامة الروسية عبر إطلاق حملات مقاطعة لكل ما هو روسي بما فيها “الكلاب” و”الأشجار” و”الرياضيين” وحتى الكتاب الكبار الذين يملؤون بكتبهم رفوف مكاتب الجامعات في العالم.
والحقيقة الرابعة: هي الذاكرة المتجذّرة في كل روسي ومن كل الفئات والأعمار للحرب العالمية الثانية وما آلت من مآسي على الروس. فالاتحاد السوفيتي آنذاك خسر أكثر من 25 مليون مواطن في مواجهة النازية ما يجعل لكل مواطن روسي فردا أو أكثر من عائلته قد قضى في تلك الحرب. وان الحذر الشديد كي لا نقول الكراهية للحرب تعطي قيمة أكبر للالتفاف الشعبي الكبير حول القيادة في العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا ليس فقط للدفاع عن روسيا بل لمنع تنامي النازية مرّة أخرى على يد الغرب. فالنازية ليست امرا يتساهل الروس بها بعد الثمن الباهظ الذي دفعوه خلال الحرب العالمية الثانية.
الحقيقة الخامسة: هي تفوّق القوّات المسلّحة الروسية على القوّات المسلّحة التابعة للحلف الأطلسي. فالجيش الاوكراني أكثر تدريبا من بين الجيوش الأطلسية لكنه هّزم منذ الأيام الأولى في حرب حقيقية مع قوّة نووية. وما يروّجه الغرب من “تعثّر” للقوّات الروسية في أوكرانيا ليس إلاّ عملية دعائية تريد إخفاء الحقائق المرّة. السردية التي سادت في وسائل الاعلام الغربية في الأيام الأولى تكلّمت عن “خسائر” فادحة، و”عدم إداء جيّد” للقوّات الروسية، وإلى أيقاف الهجوم إلخ من خرافات عكست اهتمام الغرب بالحرب الدعائية كبديل عن الحرب الفعلية.