اعترف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، في 6 ديسمبر/كانون الأول 2017، بمدينة القدس عاصمة لإسرائيل، وأعلن عن خططٍ لنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى مدينة القدس المحتلة.واعتراف ترامب بالقدس عاصمةً لإسرائيل هو مخالفٌ لقرار الأمم المتحدة الذي يعتبر مدينة القدس جزءًا من حل الدولتين، وبالتالي فقد أنهت هذه الخطوة تقاليد السياسة الخارجية الأميركية التي امتدت لعقود وكانت تتجنب إعلان القدس عاصمةً لإسرائيل في غياب اتفاق سلام إسرائيلي-فلسطيني. وأثار اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل آنذاك موجات احتجاج واسعة، وعزل اميركا دوليًّا، وطعن في شرعية رعايتها للمفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وعرقل أهدافها الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط.
لكن برنامج ترامب الانتخابي كان يقوم على وعدٍ أساسي بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس المحتلة في حال وصوله إلى البيت الأبيض، وبالتالي فإن خطوة ترامب كانت متوقعة منذ فوزه بالانتخابات الرئاسية في نهاية العام 2016، إضافةً إلى سعي ترامب لإرضاء الحزب الجمهوري المؤيد لنقل السفارة، أما صهره جاريد كوشنر، المقرَّب من إسرائيل، فكان من أشد المؤيدين لهذه الخطوة.وفي “إسرائيل” كان رئيس حكومة الاحتلال آنذاك بنيامين نتيناهو يرحب بطبيعة الحال بهذه الخطوة المنتظرة لا بل دعا أي “نتنياهو” دول العالم لأن تحذو حذو اميركا في نقل سفاراتها ما أعطى الضوء الأخضر لحكومة الاحتلال لبناء آلاف الوحدات الاستيطانية.
وصحيحٌ أنّ مفاعيل القرار يعزل ترامب-أميركا عن لعب دور فعَّال في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي؛ وصحيحٌ أيضاً أن الدول العربية والإسلامية رفضت، بمستويات مختلفة، القرار الأميركي، وحذَّرت الجامعة العربية من أن أي اعتراف بالقدس سيكون هجومًا سافرًا على الأمة العربية. لكن البيانات والشعارات والاستنكارات والتصريحات والشجب وغيرها من المواقف لا تكفي لتحرير القدس من رجس الاحتلال بل المطلوب الاعتراف وقطع العلاقات مع الكيان المحتل المؤقت الذي يثبت للداخل الاسرائيلي قبل الخارج أنّه متصدّع ومهتز، وينخره الفساد والكذب على المستوطنين وعلى المطبّعين، فلا ثبات في سياسيات الاحتلال لا عسكرياً ولا إعلامياً ولا سياسياً.
وهذا بدأ يظهر جليًا من خلال عمليات بطولية ينفذّها شبان يمتلك الحد الأقصى منهم بارودة أو ماشابه تمكّنه من تنفيذ عملية وإرباك جيش العدو الإسرائيلي، وإعلان حالة الاستنفار لعشرة أيام حتى يتم العثور على الشاب الذي نفذ عملية شعفاط “عدي التميمي 22 عاماً” ولكن كيف عُثر عليه، عُثر عليه وهو يقاوم ويصوب سلاحه على الجنود لآخر نَفَس وهم يختبؤون في جحورهم كالفئران، حتى تيقّنوا أنّه استشهد ليظهروا ويفرغون رصاصاتهم على مقاوِم قالت وسائل إعلام عبرية أنه كشف ضعف “إسرائيل” ووهنها.ولكن اكتشاف وهن إسرائيل أتى هذه المرة من أستراليا التي أعلنت حكومتها التراجع عن اعترافها بضم مدينة القدس للسيادة الإسرائيلية.
فهل هي بداية النهاية لمشروع ترامب-نتنياهو بتكريس قرار إسرائيل وضع مدينة القدس تحت سيادتها بالقوة ومنحه الشرعية! إلا أن اعتراف أستراليا الذي لاقى ترحيباً عربياً ودولياً، بدأ يثير المخاوف في الكيان المحتل، أولاً من أن تعمد أستراليا إلى الاعتراف بفلسطين دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة، وثانياً في أن تنتقل العدوى إلى دول عربية وغربية أخرى.وإذا قرأنا بين السطور لمخاوف “إسرائيل” يمكننا الجزم بأن “إسرائيل” ولو بدت مستاءة من قرار أستراليا إلا أن خشيتها الأعظم تكمن في أن يفتح ذلك القرار الباب أمام دول غربية أخرى لتحذو حذو أستراليا، ويصبح هذا القرار تقليداً غربياً يُسقط مشروع ترامب-نتنياهو.
ولا تقتصر المخاوف على الغرب فقط، بل تخشى اليوم “إسرائيل” أن تبدأ الدول العربية التي بدأت تلملم بيتها الداخلي وتعلم ولو بالنوايا أن “فلسطين” هي القضية الأم، وأن كل قمّة أو مشروع أو قرار أو مؤتمر أو اجتماع أو لقاء مصغّر لا تُذكر فيه فلسطين فهو لن يُكتب له النجاح حتى لو بدا كذلك، وأن كل مشاريع التطبيع ستسقط قريبًا حين يكتشف المطبعون زيف وكذب وإجرام وعنصرية “إسرائيل”، يخشى الكيان اليوم أن تبدأ هذه الدول بعزل “إسرائيل” وهو ما سيحصل بعد أن تضع الحروب أوزارها قريباً.