تماشيا مع المفاهيم السياسية والاقتصادية الجديدة، فالصراع لم يعد يعني بالضرورة وجود مواجهات عسكرية مباشرة بين الدول، وهو الطريق الذي انتهجته الصين في ظل استراتيجية اقتصادية كبرى وتحولات شاملة، لم تبدأ في وقت قريب بل سطرت ضمن اجندات سابقة، فقد شــهد عــام 2022 أحداث مهمة فــي العلاقــات بيــن الصيــن والشــرق الأوسط مــن خلال سلســلة مــن التحــركات السياســية للصيــن، أهمهــا زيارة الرئيس الصيني للسعودية، حيث أكد هذا الأخير أنها “ستفتح عصرا جديدا للعلاقات بين الصين والعالم العربي ودول الخليج والسعودية”، وهي التطورات التي أتت بعــد تنامــي كبيــر للانخــراط الاقتصــادي الصينـي فـي المنطقـة.
قد يتساءل البعض: لماذا تريد الصين التوغل في الشرق الأوسط؟ أو لماذا الشرق الأوسط تحديدا؟ الجواب وبكل بساطة أن الشرق الأوسط يقع على مفترق طرق بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، وهو موقع ممتاز للتوسع الاقتصادي التي يحتاج أيضا إلى النفط بشدة، اضافة الى اهمية تأمين طرق الإمداد البحرية التي تخشى من أن تتمكن الولايات المتحدة من قطعها في حال نشوب صراع.وفي الحقيقة أن الصين وإلى وقت قريب كانت في صراع بين مصالحها الاقتصادية وسياستها الخارجية غير أن المتغيرات التي أحدتثها الحرب الروسية الأوكرانية، أعطت جرأة أكبر لدخول الصين لمنطقة الشرق الأوسط بكل ثقلها، فهي لم تعد مجبرة على مسك العصا من منتصفها.
فقد أحدث هذا تغييراً في مصالحها الاستراتيجية، وتغيرت معها علاقتها بالقوى الكبرى، وبالتالي لابد من أن يفرض ذلك تغييرًا في سياساتها وفي سلوكها الدبلوماسي، ومن ثم فإن مركزية دول الخليج بالنسبة إلى المصالح الصينية في الشرق الأوسط، دفعت الصين للنظر إلى الخليج كسوق محتملة للاستثمار، سواء بالنسبة إلى البنية التحتية للصناعات الثقيلة مثل الموانئ والسكك الحديدية، أو كوجهة للتكنولوجيا الصينية مثل الذكاء الاصطناعي و5G. وعلى الجانب الآخر ترى دول الخليج فائدة في الارتباط اكثر بالصين ودعم استراتيجياتها المستقبلية، مثل رؤية السعودية 2030.
باتت الصين على أعتاب مراحل متقدمة من التحولات الاقتصادية والاستراتيجية، مع تنامى فكرة الابتعاد عن الطاقة بالنسبة للاستثمار الخارجي وخاصة في منطقة الشرق الأوسط الغنية بالنفط، فقد اتجهت الشركات الصينية بالفعل إلى الاستثمار المباشرة بالإضافة إلى العديد من عقود البنية التحتية الكبيرة الممنوحة للشركات الصينية حيث تقوم هذه الأخيرة ببناء الموانئ ومناطق التجارة الحرة في المنطقة، بما في ذلك في عمان ومصر والسعودية والكويت. كما نما التعاون بين الصين والدول العربية ليشمل التكنولوجيا الرقمية والطاقة المتجددة والسياحة والطيران. وتستخدم معظم دول مجلس التعاون الخليجي تقنية هواوي الصينية المثيرة للجدل في شبكات اتصالاتها.
ومع ذلك، فإن أحد أنواع التعاون المتزايد هو الأكثر إثارة للجدل ويتضمن الإنتاج المحلي للمعدات العسكرية. حيث يطور السعوديون صواريخهم وطائراتهم دون طيار بمساعدة صينية، بينما اشترت الإمارات طائرات مقاتلة صينية.وعلى الرغم من أن منطقة “الشرق الأوسط” لم تكن يومًا ما محور اهتمام في الاستراتيجية الصينية كما هي عليه اليوم، إلى أنها اليوم تنظر إلى الصين كلاعب دولي يمكن الاعتماد عليه، في ظل انحصار التواجد الأمريكي في المنطقة، وإدراك دول الشرق الأوسط إلى ضرورة تنويع علاقاتها بما يضمن مصالحها الاقتصادية والسياسية على حد سواء. في ظل زيادة المخاوف من صعود نظام عالمي غير ليبرالي جديد، حيث تصطاف القوى العالمية في كوكبة جيوسياسية “منزوعة الغرب”، أو أن ينقسم العالم بين دول ديمقراطية في مواجهة دول غير ديمقراطية.
ولا يمكن للصين ضمان استمرار النمو والتنمية إلا من خلال اعتمادها رؤيةً تحظى بالقبول من القوى الدولية، وحرصت الصين على الظهور بمظهر الفاعل الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط، غير أن هذا لا يمكن أن يتحقق إلا بمصالح مشتركة مع دول المنطقة، والتي ترتبط منذ سنوات بالولايات المتحدة الأمريكية، وحرصهم على علاقتهم معها سيشكل الهاجس الأكبر بالنسبة للصين في حين ستتعرض هذه الدول لضغوطات كبيرة لتقليص التواجد الصيني فيها في حين أن أكبر الصعوبات يتمثل في إبقاء العلاقات مع جميع الأطراف ضمن مسافة آمنة.