يقول وزير الخارجية الاميركي في حقبة السبعينات ( هنري كيسنجر ) انه ليس من مصلحة أمريكا أن تحل أي مشكلة في العالم : بل من مصلحتها أن تُمسك بخيوط المشكلة وتُحركها حسب المصلحة القومية الأمريكية ، فلو تم استعراض أماكن التوتر في العالم لوجدنا أن أساسه أمريكا بشكل مباشر وغير مباشر.حيث يُعتبر المذهب البراغماتي الأمريكي بمنطلقاته الفلسفية المادية والنفعية أحد مكونات المنظومة القيمية للسياسة الخارجية الأمريكية !
حيث تشترك البراغماتية السياسية مع البراغماتية بمعناها الفلسفي في عدم التقيد بالمبادئ المجردة ! والذي من شأنه أن يجعل أصدقائهم غير واثقين بدعمهم في أوقات الضرورة. وغالباً ما يتم الدعوة إلى البراغماتية تحت بند حماية الشعب وتوحيده، وهذا السلوك البراغماتي لا يمكن أن يبني علاقات صداقة مع أحد ! فالصداقة المفقودة لا تحسب ضمن خسائرهم ! لأن في الطابور عشرات ينتظرون شغور المكان ! فدوماً لأمريكا حلفاء غير موجودين في السلطة ويتلقون دعماً كبيراً لمؤسساتهم تحت مسميات المجتمع المدني.
لذلك فإن التحالف مع أمريكا لا يشكل درعاً كافياً لحماية الحكام والنُخب الحاكمة من شعوبهم ! فأمريكا بنيت ايدلوجيتها ونظرياتها على المنفعة ، وتخصصت عبر عقود طويلة من الزمن في بيع حلفائها وأصدقائها ! وأوغلت في ممارسة الإزاحة والاقتلاع بمجرد أن تجد ( البديل ) الأفضل ! فلم نرى أو نسمع أنها مدت يد العون لحليف أو صديق والأمثلة كثيرة لزعماء وثقوا بها .فالسلوك الأمريكي الذي رأيناه سابقاً مع شاه إيران وحسني مبارك وزين العابدين وعلي عبدالله صالح يوحي بأن البراغماتية الأمريكية قد تذهب إلى أبعد مما يعتقده الأصدقاء !
فقد دأبت أمريكا على التخلي عن حلفائها عندما يصلون إلى وضع لا يستطيعون أن يقوموا بالأدوار التي تدعمهم لأجلها.وعندما يصبح الاحتفاظ بهم كلفته عالية ، وهذا ما حدث في الباكستان عندما عادت ( بينظير بوتو ) من منفاها عام ١٩٨٨ بتشجيع أمريكي ، وأكدت عودتها بداية مشهد أنتهاء الجنرال ( برويز مشرف ) رغم كل ما قدمه من خدمات لأمريكا ومشروعها في أفغانستان.وكما فعلت مع الرئيس الأندونيسي الجنرال سوهارتو بعد حكم دام ٣٣ عاماً ، وطالبته بالإستقالة وتسليم الحكم لنائبه في عام ١٩٩٨ وهذا ما تم خلال ساعة.فغالبية الإدارات الأمريكية تتعامل مع أصدقائها وحلفائها بعقلية التاجر الذي يهمه تسويق بضاعته المادية والسياسية بما يخدم مصالحه قبل وآخر كل شيء .
وهذا المبدأ أعلنه مبكرًا خامس رئيس للولايات المتحدة الأمريكية.وأمريكا لا تخفي سراً بأن دعمها الخارجي لأي دولة لا يعتبر دعماً مجانياً بل هو مقابل خدمات تقدمها الدول لأمريكا ، وهذه الخدمات تصب في خانة المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية وقواعدها العسكرية المنتشرة في بقاع العالم.وإن الأدراك أو الوعي الثقافي الأمريكي لا يحس بوخز الضمير ، وموضوع المصالح يحتل أولوية في الثقافة الأمريكية بحكم النهج البراغماتي السائد والمتحكم في عموم الأنشطة الأمريكية حول العالم !
والمتابع للشأن الأمريكي يمكن له أن يحلل سلوكيات أمريكا ويراها رمزاً الشر المطلق.إلا أنه وبنفس الوقت يراها كأمة عظيمة ونموذج ثقافي واقتصادي متقدم لو تناول أدوات تحليلية مختلفة ،فالكراهية المنتشرة في أغلب أنحاء العالم ليست موجهة للشعب الأمريكي بل إلى الإدارات السياسية الامريكية المتعاقبة التي مارست سياسة الهيمنة العالمية في ضوء تحقيق المصالح الأمريكية على حساب شعوب العالم جميعاً.فكم ستكون دول العالم أكثر أمنناً لولا تدخل أمريكا في شؤونها !