قبل ثلاثين عاماً وفي الثالث عشر من سبتمبر تم توقيع اتفاق أوسلو والمعروف رسمياً باسم “إعلان المبادائ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي” بعد مفاوضات سرية بين دولة الكيان الصهيوني ومنظمة التحرير، ففي العاصمة النرويجية أوسلو كان المخاض وفي واشنطن كانت الولادة، وبعد ثلاثة عقود ما زال يحتدم النقاش والجدل هل ما زال الإتفاق حياً وساري المفعول وملزم للطرفين أم مات ولم يعد له وجود؟ و أن اتفاق أوسلو بات يشبه (زومبي) أو الميت الحي كما تجسده أفلام سينمائية متعددة. فلا هو ميت ولا هو حي، وحتى نفهم السر وراء الحالة الملتبسة والمعقدة لاتفاق أوسلو وما أنتج من مفاعيل على الأرض يصعب الفكاك منها علينا العودة بعجالة للبدايات.
وجاء الإتفاق في ظل ظروف فلسطينية وإقليمية ودولية ضاغطة على القيادة الفلسطينية، فالانتفاضة الأولى 1987 آخذة في التراجع وأصبحت تعاني من انقسامات داخلية، والنظام الإقليمي العربي إنهار بعد حرب الخليج الثانية 1990، كما أن المعسكر الاشتراكي إنهار وأصبحت واشنطن تتحكم بالنظام الدولي، وفوق كل ذلك تم محاصرة منظمة التحرير عربياً ودولياً، سياسياً ومالياً، بتهمة مساندة صدام حسين في حرب الخليج الثانية، فاعتقدت القيادة الفلسطينية أن الولوج في العملية السياسية لحل مشكلة الشرق الأوسط برعاية أمريكية قد يخرجها من المأزق وتستعيد دورها الوطني والإقليمي والدولي، فكانت مشاركتها في مؤتمر مدريد 1991 الذي حضرته غالبية الدول العربية ثم توقيع اتفاق أوسلو.
فقد انقسم الفلسطينيون حول الاتفاق منذ لحظة تأسيسه ما بين مؤيد ومعارض، ليس فقط بين أنصار منظمة التحرير وحركة فتح من جانب والمعارضة ممثلة بحركتي حماس والجهاد الإسلامي وبعض فصائل منظمة التحرير من جانب آخر بل حتى داخل حركة فتح. في داخل المنظمة وحركة فتح كان نهجان ورؤيتان متعارضتان تجاه التعامل مع اتفاقية أوسلو وعملية التسوية برمتها، النهج (العرفاتي) والنهج (العباسي) : الأول كان يراهن على إمكانية الجمع بين التسوية السياسية والمقاومة المسلحة واستعمال الأخيرة كأداة ضغط على إسرائيل والمنتظم الدولي لتسريع عملية السلام والانسحاب من الأراضي المحتلة .
أما النهج (العباسي) فكان يرى المراهنة على العمل السياسي والشرعية الدولية فقط وكان محمود عباس واضحاً في رفضه لأي عمل عسكري، وحتى هذا النهج الذي طبقه أبو مازن منذ تسلمه السلطة عام 2005 وصل لطريق مسدود أيضاً بعد توقف المفاوضات عام 2010، وبدلاً من أن يعلن الرئيس أبو مازن نهاية اتفاق أوسلو والعملية السياسية برمتها هرب للأمام نحو الدولة والمراهنة المطلقة على الشرعية الدولية كطريق وحيد للوصول للدولة، وحتى في هذه المراهنة ومع تأكيد الرئيس على السلام ورفضه للعنف لم ينج من غضب الإسرائيليين والأمريكيين الذين اتهموه بمعاداة السامية والتحريض على العنف.
وربما أدرك الرئيس أبو مازن متأخراً أن الكيان الصهيوني لم يغتال الرئيس أبو عمار لأنه يريد العمل المسلح، بل قتلته لإصراره على السلام وتحركه المتواصل إقليمياً ودولياً داعياً للسلام وفاضحاً السياسة الصهيونية الرافضة للسلام، معرياً وكاشفاً إسرائيل أمام المنتظم الدولي، ونفس الأمر يجري مع الرئيس أبو مازن فالمواقف المعادية له وتصيّد كل كلمة منه لاتهامه بمعاداة السامية والتحريض على العنف سببه إصراره على الرواية الفلسطينية وعلى السلام وفضح الممارسات العنصرية والإرهابية الكيان الصهيوني.
وحتى هذه اللحظة يكتنف الغموض موقف منظمة التحرير وحركة فتح والرئيس أبو مازن ما إن كان الاتفاق ما زال موجوداً ويجب التمسك به وبعملية السلام؟ أم أن إسرائيل أفشلت وقضت على عملية التسوية بممارساتها الاستيطانية التهويدية؟ حتى قرارات المجلسين الوطني والمركزي لمنظمة التحرير لم تستطيعا دفع القيادة للإعلان رسمياً عن نهاية أوسلو وتجاوز تداعياته وحل السلطة وحتى تغيير وظيفتها، ولا دفع القيادة لسحب اعترافها بدولة الكيان وخصوصاً بعد أن أعلن وزراء في الحكومة اليمينية العنصرية عدم اعترافهم بوجود شعب فلسطيني.