احتدت المواجهات العسكرية بين حزب الله والقوات الصهيونية. والتصعيد في تبادل إطلاق النار بات سيد الموقف بين الجانبين. فكلُّ قصفٍ من الجانب الصهيوني يقع الردُّ عليه بقصفٍ أعلى وأقوى منه، من طرف المقاومة اللبنانية.فقوة الردع التي كان الكيان يتباهى بها أمام رأيه العام، ويجعل منها عقيدته الأساسية التي يرهب بها محيطه، وتحديدا قادة الجيوش العربية، تلاشت إن لم نقل إنها انتهت وباتت جزءا من الزمن الغابر وان حزب الله أنهاها . ولاشك في أن هذا تحوُّلا استراتيجيا في تاريخ الصراع بالمنطقة، إنه مؤشر قوي على أن استمرار وجود الكيان في فلسطين بات محفوفا بالمخاطر، إن لم يكن في الطريق إلى الزوال..
فإذا كانت إسرائيل قد وضعت هدفا مركزيا لإنهاء العدوان الحالي على غزة بالقضاء المبرم على حركة حماس، فإن حزب الله قرر بشكلٍ قطعي أن قصفه للكيان الصهيوني لن يتوقف إلا إذا وضع العدوان الصهيوني على غزة أوزاره، وأن يقع ذلك باتفاق مع قيادة حماس. ويريد الحزب بهذا الموقف، ليس تثبيت حركة حماس في موقفها والحفاظ لها عل وجودها قوة حاكمة في القطاع، وتُشكِّلُ تهديدا متماديا للكيان الصهيوني فحسب. فالحزب يريد أن يسجل على الكيان هزيمة أخرى مُني بها في هذا العدوان، بفشله في القضاء على حماس، على غرار الهزيمتين اللتين تلقاهما سنتي 2000 و2006 على أيدي حزب الله.
وبالمساهمة في إحباط مسعى الكيان الصهيوني الرامي إلى تدمير حركة حماس والجهاد الإسلامي وكل فصائل المقاومة في غزة، يعمل الحزب على منع تصفية القضية الفلسطينية وتهجير أهلها من القطاع والضفة وحتى أرض 1948، إلى المنافي والملاجئ الخارجية، كما أصبح قادة الكيان يعلنون عن ذلك بوقاحة منقطعة النظير. فمن الواضح أن الحزب لا يهاب ارتفاع وتيرة التصعيد مع دولة الاحتلال إلى أعلى الدرجات.وان الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله قالها صراحة: نحن على استعداد لخوض الحرب مع الكيان بلا سقوف ولا حدود ولا ضوابط. إنه يقول لقادة الكيان بشكل مباشر ودون مواربة، لغة تهديداتكم لن تردعنا ولن تخيفنا، ونحن إلى جانب المقاومة الفلسطينية ودعمُنا لها لن يتوقف، وسنستمر في قتالكم إلى جانب أشقائنا الفلسطينيين، وأعلى ما في خيلكم اركبوه.
فقد غابت لغة إعادة لبنان إلى العصر الحجري من القاموس، كما كان يتبجح بذلك بعض جنرالات الكيان وسياسييه، لحسوها من أفواههم. وأضحى زمنا بعيدا، ذلك الزمن الذي استغلت فيه دولة الاحتلال في تموز 2006 اختطاف جنديين إسرائيليين من طرف عناصر من حزب الله، فبادرت على الفور إلى شنِّ حربٍ دامت 33 يوما على لبنان. صارت مسافة بعيدة جدا تفصلنا عن لحظة اختلاق محاولة اغتيال السفير الصهيوني في لندن، لاجتياح لبنان، وفرض الحصار على عاصمته بيروت وتدميرها، وإصدار الأوامر بتهجير منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان كما حدث صيف ذات عام 1982.
واليوم، الصواريخ والمسيرات والقنابل تتهاطل على دولة الاحتلال، ويسقط العديد من أفراد جيشها صرعى للقصف، ويهرب الآلاف من المستوطنين من الشمال صوب الوسط جريا وراء سلامتهم، وتتعطل الزراعة والتجارة والسياحة في مجمل الكيان الصهيوني، ولا يجرؤ جيشه على شنِّ الحرب الشاملة على لبنان كما تعوّد أن يفعل ذلك ضد جيرانه، وفي الغالب لأتفه الأسباب، إلا برغبة في نشر الرعب والخوف والردع في نفوس أهل المحيط.و مع مواكبة الأحداث وقراءتها بتأمل، يمكن الاستنتاج أن القادة السياسيين الكبار لحزب الله يتحاشون اتساع مدى الحرب ويعملون من أجل ضبط إيقاعها لكي تظل في الحدود المرسومة لها من طرفهم، مراعاة للوضع اللبناني الداخلي، ولهشاشة تركيبته الطائفية.
و بالمقابل يبدو أن القادة العسكريين للحزب الموجودين في الميدان، وعناصره المدربة على حمل السلاح، والمتمركزة على أهبة الاستعداد في الأنفاق، وفي الهضاب والثغور، وعلى سفوح الجبال، تتشوق للدخول في المواجهة الشاملة والطاحنة مع جيش الاحتلال، تحذوها الرغبة الفولاذية في تفجير الرمانة، وفي أن توجه إلى القوات الإسرائيلية ضربة ثالثة قاسمة على غرار الضربتين السابقتين.فعدم تجرؤ القوات الإسرائيلية على شن الحرب الشاملة على حزب الله كل هذه المدة المديدة، يبيِّنُ بأن حالة الشعور بالردع انتقلت إلى الضفة الأخرى عند العدو المحتل. وهذا المعطى يُشكِّلُ في حد ذاته هزيمة له وانتصارا للحزب. بهذا الانتصار المسجل لفائدة حزب الله تتكرس عقدة تفوُّقه على الجيش الصهيوني، وتصبح عقدة أبدية يصعب التخلص منها بالنسبة لجنرالات بني صهيون.