للكاتب خالــد شــحام
لقد اصبح الجلوس أمام شاشة الأخبار اليومية قرارا يتطلب شجاعةً وقوةً خاصة ، ليس شجاعةً فقط لتحمل مشاهد الموت والالام والعذاب على الشاشة مباشرة ، بل شجاعة أخرى خاصة لتحمل رؤية وجوهٍ من المسوخ والقردة والمجرمين والخونة ، فهنالك معركةٌ خفية طاحنة تجري في هذه الجلسات ، هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها تقديم الجريمة على مرأى العين مقترنة بإطلالات الجناة والمجرمين مع الاقتران بالعجز الكامل عن فعل شيء حقيقي ومؤثر ، ثمة صدام هائل هنا لا يظهر منه شيء على السطح ، كيف يمكن ان يتفاعل المرء مع هذا التحدي العصبي والسيكولوجي ، وكيف تتصادم معايير الانسانية ومحدداتها الداخلية مع ما نشاهده ؟
إن ما يقترفه جيش المخربين والمجرمين في غزة شيء يتعدى تحديَ القوانين الدولية والأعراف الأممية إلى تحدي الإنسانية بفطرتها الداخلية ومسِّها بشيء من الأذى ، لا حاجة هنا لأن يكون الإنسان عربيا أو مسلما أو مسيحيا أو من أي فئة كانت حتى يشعر بهذا الاعتداء على قيمته ومكانته وصورته ، إن العالم بأكمله يعيش مع هذه الحالة مأزقا أخلاقيا ووجوديا أمام هذه العصابة التي تتجاوز قوانين الخالق على خلقه ، وتتجاوز وتعتدي على معالم التحضر والقيمة البشرية وتمثل خطرا مطلقا على كل شيء وكل مجتمعات البشرية .
ومع إطلالة الرئيس ترامب وإعلانه فشل المفاوضات حول الهدنة في غزة ومطالبته بالقضاء على حماس يكون الرئيس وطاقمه الكذاب قد تلقى صفعةً جديدة من المقاومة الفلسطينية تضاف إلى رصيد خسائر سياساته وسقوط الهالة الكاذبة التي أحاط بها نفسه طيلة الشهور الماضية من اعتلائه سدة الرئاسة ، بهذا الإعلان تكون المقاومة الفلسطينية قد ردت على خطاب المجرم نتانياهو بأنها لن تسمح له ولغيره بأن يملي عليها شروط الاستسلام ، وتكون قد أعلنت مرة جديدة بأنها تقف جيدا على قدميها ولم تسقط أو تضعف أو تتنازل ، وخديعة المفاوضات والضغوط و(الوسطاء ) العرب لم تتمكن من الاحتيال على غزة وفشلت في إظهارها في موقف المتسول المترجي الذي يريد أية صفقة بأي ثمن .
و لم تعد المسألة في غزة العزة مسألة إنهاء المقاومة أو تحرير الأسرى الصهاينة والتفاوض حول كل هذا ، المسألة اليوم هي صورة شاملة لعدوان يجري على المنطقة بالتجزيء ثم بالمجمل ضمن خطة صهيونية كبيرة المعالم يتم تسويقها وإعلان وترسيخ نتائجها في الأذهان قبل الوقوع الحقيقي ، الشيء المذهل في الأمر حول هذه الخطة ليس رد الفعل العربي والعالمي الفاضح والعاجز ، بل هو فقدان الولايات المتحدة كامل لياقتها الدبلوماسية وانحيازها المطلق نحو الجريمة الصهيونية ، وتقزيم أكبر دولة في العالم وتحويلها إلى مجرد عبد تابع يجر جيوشه وأسلحته وقدراته لخدمة حفنة من المجرمين وضرب تاريخ كامل من الاستقرار والأمن العالمي وتحويل قوانينه إلى ممسحة .
بعد متابعة متعمقة طيلة الشهور العصيبة الماضية من القتل والتدمير والاعتداء على الأرض العربية يمكن للمرء أن يفكر بطريقة مختلفة الرؤية ، لأننا يجب ان نفهم بأننا أمام خطة وإصرار وحشد على تغيير معالم المنطقة ، وهذا التغيير لا يعني فقط إزالة كل مواقع وبؤر الممانعة من غزة حتى ايران ، بل يتعدى الأمر ذلك إلى إحداث تغييرات استراتيجية كبيرة الأبعاد أطماعها ليست مجرد أطماع تقليدية عرفها العالم ، بل نحن أمام مرحلة استعمارية مولودة من رحم فصول كاملة خبيرة متحورة عن الاستعمار السابق ، لها الخصائص الآتية :-
فالعدو فيها غير معلن حجما وفكرا ونوايا ، كل هذه المحددات مضللة المعالم و مغلفة بالخداع والكذب لأقصى حدودهما وتماهت فيها الضحية المتعاونة مع عدوها ، النوايا الحقيقية لهذه الحملة غير واضحة ومغطاة بحملات السلام والأمن والنعيم ويتم اللعب فيها على وعي الشعوب وتصوير الأمور بحجوم أصغر بكثير من حجمها الحقيقي. وان الإبادة والتهجير القسري هما عنوانان رئيسيان لها ، وهذا ما يفسر تكسير كل الأعراف والقوانين الدولية الحالية المعتادة لفتح المجال أمام الجرائم بحدها الأقصى دون محاسبة ، هذان المصطلحان لا يقتصران على غزة بل هنالك كما يمكن التوقع خطط موازية معدة جيدا لسوريا ولبنان والأردن ومصر أجزاء واسعة من الخليج العربي وربما أبعد كثيرا.