للكاتب كامل المعمري
التهديدات المُحدقة بمصر والأردن اليوم، في ظلِّ التصريحات الأمريكية-الإسرائيلية المُتكررة حول تهجير سكان غزة، تُضفي أبعادًا جديدة على الأزمة، لتصبح اختبارًا وجوديًا للدول العربية وقدرتها على حماية سيادتها ومصالحها. فما يُخطط له ترامب ونتنياهو ليس مجرد فقاعة إعلامية عابرة، بل هو جزء من استراتيجية مُمنهجة لتفكيك الكيانات العربية، وتحويلها إلى ساحات مفتوحة للصراعات في وقتٍ تتناسق فيه المصالح الغربية مع الرؤية التوسعية لليمين الإسرائيلي، الذي يحلم بـ”إسرائيل الكبرى” من النيل إلى الفرات.
لم تكن تصريحات ترامب حول “نقل سكان غزة إلى سيناء” وليدَة اللحظة، بل هي امتدادٌ لسياسةٍ استعمارية قديمة، تعود إلى ما قبل النكبة، حين حاولت الحركة الصهيونية تهجير الفلسطينيين بالقوة، وإحلال مستوطنين مكانهم. اليوم، يُعاد إنتاج هذه السياسة بأساليب أكثر دهاءً، عبر توظيف الورقة الاقتصادية لتحقيق ما فشلت فيه الحروب. فالدعوة إلى تهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن، تحت ذريعة “تحسين أوضاعهم الإنسانية”، تُخفي وراءها مخططًا لتصفية حق العودة، وطمس الهوية الوطنية الفلسطينية، وإعادة تشكيل الخريطة الديموغرافية للمنطقة، بحيث تُصبح إسرائيل الدولةَ الوحيدة القادرة على فرض هيمنتها من خلال تحالفاتها مع قوى عظمى، بينما تُدفع الدول العربية إلى حافة الانهيار تحت وطأة الأزمات المفتعلة.
وفي مواجهة هذه التحديات، تُصرّ مصر على رفض أيّ توطين للفلسطينيين، ليس تجاهلًا لمعاناتهم، بل حفاظًا على حقوقهم التاريخية، ورفضًا لتصفية القضية. لكن هذا الموقف المصري الصلب يُكشف في الوقت نفسه عن مفارقةٍ عربيةٍ مُرة.. فالدول التي ترفع شعارات التضامن مع فلسطين، وتُدين المخططات الأمريكية-الإسرائيلية في بياناتٍ رسمية، تَغرق في صمتٍ مطبقٍ عندما يتعلق الأمر بدعم مصر اقتصاديًا وسياسيًا لتعزيز صمودها. فالسعودية، التي اعلنت انها سوف تبرم صفقاتٍ مع واشنطن بقيمة 600 مليار دولار، منها استثمارات في قطاعات التكنولوجيا والطاقة، لم تُوجِّه حتى اللحظة سوى نسبة ضئيلة من هذه الأموال لمساعدة مصر، التي تعاني من ديونٍ خارجيةٍ تجاوزت 165 مليار دولار، وانخفاضٍ حادٍّ في قيمة العملة، وارتفاعٍ في معدلات التضخم وصل إلى 35% في بعض القطاعات.
فالتدفقات المالية السعودية إلى مصر شهدت تراجعًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة، رغم الوعود بزيادة الاستثمارات، وهو ما يُثير تساؤلاتٍ حول مدى التزام الدول العربية بخطاب التضامن الذي ترفعه. وان التغير بين الخطاب السياسي العربي والممارسة الفعلية ليس جديدًا، لكنه يصل اليوم إلى ذروته في ظلِّ التحولات الإقليمية .فالدول الخليجية، التي كانت تُعدّ حاضنةً للمشروع القومي العربي، انخرطت في سباقٍ محمومٍ لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، دون ضماناتٍ حقيقيةٍ بوقف الاستيطان أو الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
والأكثر إثارةً للاستياء، أن بعض هذه الدول تُبرر علاقاتها مع تل أبيب بأنها “خدمةٌ للقضية الفلسطينية”، في حين أن واقع الحال يُظهر أن التطبيع يُسهِّل تمرير المخططات الأمريكية-الإسرائيلية، عبر خلق انقساماتٍ في الموقف العربي. فتصريح نتنياهو الأخير، الذي اقترح فيه إقامة الدولة الفلسطينية على أراضٍ سعودية، لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاجٌ لسياسة التطبيع التي أعطت إسرائيل جرأةً غير مسبوقة في فرض شروطها حتى على حلفاء واشنطن العرب. وفي هذا السياق، تتعمق أزمة مصر الاقتصادية كمرآةٍ تعكس اختلالات النظام العربي برمته. فالدولة التي تحملت عبء الحروب العربية مع إسرائيل، واستقبلت ملايين اللاجئين من دول الجوار، وتصدت لمحاولات تفكيكها خلال الربيع العربي، تجد نفسها اليوم وحيدةً في مواجهة تحدياتٍ كبيرة
فالدعم الخليجي، الذي كان يُشكل شريان حياةٍ للاقتصاد المصري خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات، تراجع بشكلٍ كبيرٍ بعد تحالف بعض الدول الخليجية مع نظام الإخوان المسلمين الإقصائي، ثم تحوَّل إلى استثماراتٍ انتقائيةٍ تهدف إلى تحقيق عوائد مالية، لا إلى بناء شراكات استراتيجية. حتى الصفقات العسكرية المصرية مع روسيا وفرنسا، والتي تهدف إلى تعزيز القدرات الدفاعية، تُواجه ضغوطًا خليجيةً غير مباشرةٍ للعودة إلى الاحتكار الأمريكي للأسلحة، مما يُضعف خيارات مصر في تنويع مصادر التسلح. لكن السؤال الأكثر إلحاحًا لماذا ترفض الدول العربية، وعلى رأسها السعودية، تحويل جزءٍ من استثماراتها الضخمة في الغرب إلى دعم مصر؟ الإجابة تكمن في تحوُّل الرؤية الاستراتيجية للنخب الحاكمة في بعض العواصم العربية، التي أصبحت تنظر إلى الأمن القومي من خلال منظورٍ اقتصادي ضيقٍ، قائمٍ على تعظيم الثروات الفردية، بدلًا من تبني رؤيةٍ إقليميةٍ تعزز التكامل العربي.