للكاتب محمد الحسيني
هي صواريخ الدمار الأمريكية التي غيّرت معالم البلدات والقرى الجنوبية، وهي قنابل فوسفورهم التي أذاقت ألاطفال طعم الموت المرّ، وهي مسيّرات غدرهم التي قتلت أبناءنا دون هوادة طوال عام ويزيد، وهي ذاتها طائرات التحالف الأمريكي -الصهيوني التي بدأت عدوانها على لبنان يوم 23 سبتمبر، وعادت ليل 27 نوفمبر لتُنهي ما بدأته بغارات هستيرية هي أشد كثافة وأكثر عشوائية عن سابقاتها، حيث دمرت عشرات الأبنية والمنازل فوق رؤوس قاطنيها على امتداد الوطن بما فيه مدينة بيروت، وذلك قبل دخول هدنة الستين يوماً حيز التنفيذ بساعات معدودات.
وإن كانت هذه الهجمات تحمل دلالات إضافية على همجية العدو، ليس لجهة مخزون الحقد والضغينة اللذين يكنّهما تجاه لبنان عامة فحسب، وليس بسبب تكثيفه لموجات العنف بغية النيل من جميع الأهداف قبل سريان وقف إطلاق النار فحسب أيضاً، وكذلك ليس بسببب عمله وفقاً للبروتوكول العسكري الأمريكي الذي ينص على “أنّ ما يخرج من مخازن الذخيرة لا يعود اليها” فحسب أيضاً وأيضاً، إنما جاءت لتؤكد ما هو مؤكد في الأساس، حول نهجه “التوراتي” في الحرب، من خلال إصراره على تحقيق أعلى نسبة ممكنة من القتل وأكبر حجم ممكن من الدمار، ليقدمهم قرابين ل”يهوه” عسى أن ينال بركة رضاه، وليس أقله بينة على ذلك هو في عدم احترامه لدور العبادة، لجهة ما نفذه من أعمال هدم وتدنيس لها.
ومع بروز التباين في وجهات النظر بين مفهوميّ النصر والهزيمة لدى كل من العدو الصهيوني والفئات اللبنانية المعارضة لنهج المقاومة من جهة، و بيئة حزب الله وحلفائه من جهة أخرى، كان لا بد من الوقوف على نتائج الميدان بموضوعية مطلقة خلال حرب ال66 يومأ، التي تؤكد فقط انتصار للطائرات الأميركية الصهيونية على الأبنية والمنازل بما فيهم من أبرياء، مقابل فشل العدو في تحقيق الأهداف التي أعلن عنها، أولها لجهة القضاء التام على حزب الله على الرغم من الحرب العالمية التي شُنّت ضده من قبل أكثر الجيوش تطوراً في العالم، وثانيها عدم قدرته على تحقيق عودة مستوطني الشمال بقوة النار، وثالثها فشل منظومة الدفاع الجوي لديه رغم ادعاءاته بتدمير القدرات الصاروخية للمقاومة، التي استمرت بقصف منشآت العدو في عمق الأراضي المحتلة لحين الإعلان عن وقف إطلاق النار.
على الرغم من عمليات العدو الأمنية من خلال حملة الاغتيالات الواسعة التي نفذها ضد قيادات المقاومة، إلا أنه فشل في استثمارها ميدانياً، حين عجز عن ترجمتها إلى انتصار خاطف على أرض الجنوب، بعد أن كان يعوّل على ذلك من ضمن خطته العدوانية التي بدأها بتفجيرات “البيجر”، ويعود الفضل في هذا الفشل إلى الصمود التاريخيّ لرجال المقاومة. وان نجاح العدو في فصل جبهة لبنان عن جبهة غزة، يقابله فشل المقترح الأمريكي – الصهيوني الذي جاء به هوكشتاين خلال الأيام الأوائل من العدوان، لجهة استسلام حزب الله وإخضاع لبنان للوصاية الغربية، وهذا ما رفضته السلطات اللبنانية من ضمن رهانها على المتغيرات الميدانية، مما أثمر في النهاية اتفاقاً لوقف إطلاق النار استناداً للقرار الأممي 1701 عُرف باتفاق “البنود 13”.
ويبقى السؤال الأبرز، ما هو رد فعل المقاومة؟ فصحيح أنها قد انتصرت في الميدان من خلال صمود أبطالها، بعد أن قدمت أغلى ما لديها على مذبح الشرف والكرامة، وفي مقدمتهم أمينها العام الشهيد القائد السيد حسن نصرالله، وصحيح أن الدبلوماسية اللبنانية قد انتصرت أيضاً على الضغوطات الأمريكية – الصهيونية إن من حيث محاولات الترهيب السياسي أو من خلال استراتيجية العدو التدميرية، وصحيح أن اللبنانيين قد انتصروا في إنسانيتهم على الرغم من اختلاف مشاربهم السياسية من خلال تكاتفهم حول النازحين في مختلف المناطق. لكن ما هو صحيح أيضاً أن البلد مازال فوق فوهة بركان، فهل يصمد وقف إطلاق النار؟ وماذا بعد الستين يوماً؟ خاصة وأن ما بين سطور الاتفاق “فقرة مخفية” يُروج لها العدو .
اذ أن هناك اتفاق بين تل أبيب وواشنطن يعطي “حرية التحرّك” للجيش الإسرائيلي، فهل هناك “بند 14” قد كتب بالحبر السري؟ وهل صحيح أنّ هذا البند هو من أوصل الإتفاق إلى خواتيمه، ولو لم تحصل عليه إسرائيل لما قبلت بالهدنة؟ وماذا عن توقيت إصدار المحكمة الجنائية الدولية لمذكرة الاعتقال بحق نتانياهو، وذلك خلال اجتماعه مع آموس هوكشتاين؟ فهل هي محض صدفة، أم أنه قد حان موعد نزوله عن شجرة الأهداف؟ هي اسئلة كثيرة، لكن من الصعب العثور على إجابات شافية لها ، ربما سيكون ذلك في المستقبل البعيد حيث الأجوبة تصبح أقل وطأة على شعب قُدر له أن يكون على حدوده الجنوبية كيان يقتات على الحروب ليغذي بها أطفاله، فما إن يخرج من حرب حتى يدخل في أخرى، فها قد بدأ يُعد العدة للضفة الغربية.